التمـييز العنصري في جنـوب أفريقـيا دراسـة حالـة ونظـرة على الصـراع الفلسطـيني الإسرائيلي ~ محمد الكويفي

Change Language

لا خير في دراسة وعلم ونبوغ، اذا لم يصاحبه تقوى وعمل..

2021/07/12

التمـييز العنصري في جنـوب أفريقـيا دراسـة حالـة ونظـرة على الصـراع الفلسطـيني الإسرائيلي





التمـييز العنصري في جنـوب أفريقـيا

دراسـة حالـة ونظـرة على الصـراع الفلسطـيني الإسرائيلي





الباب الأول: المقدمة:

أولا: البطاقة التعريفية:


الاســــم

جمهورية جنوب أفريقيا

العاصمــة

تشريعية   كيب تاون

إداريـة   بريتوريا

السياسية جوهانسبورغ         

أكبر مدينـة

جوهانسبورغ         1,700,000 نسمة

اللغة الرسمية

إنجليزية، أفريكانية، زولو، وغيرها

نظـام الحكم

جمهوري

رئيس الوزراء

جاكوب زوما

الاستقلال من  المملكة المتحدة

31 مايو      1961 

المساحــة

 1,219,912  كم2

الترتيب حسب مساحات دول العالم

24

عدد السكـان

43,647,658  نسمة

الترتيب حسب سكان دول العالم

26

كثافة السكان

36 نسمة/كم2

العملـــة

رانـد ZAR

الناتج القومي الإجمالي

456,708,000,000  $

الناتج القومي للفرد

10,700 $

العلـم الرسـمي

علم جنوب أفريقيا

الشعـار الوطـني

شعار جنوب أفريقيا

ثانيا: جنوب أفريقيا, الجغرافيا والتاريخ:

الموقـع:

تقع جمهورية جنوب أفريقيا في أقصي الطرف الجنوبي من القارة الأفريقية، وتحدها نامبيا من الشمال الغربي، وبتسوانا وزمبابوي من الشمال، وموزمبيق وسوازيلاند من الشمال الشرقي، وتحيط أراضيها بليسوتو بالكامل، وباقي حدودها على المحيط الهندي والأطلسي. لجنوب أفريقيا ثلاث عواصم، سياسية وهي جوهانسبرغ, تشريعية وهي مدينة الكيب وإدارية وهي بريتوريا وسكان العاصمة حوالي 750,000 نسمة، ومدينة الكيب أكثر من مليون نسمة وتنقسم الجمهورية إلى أربع ولايات هي: الكاب وأورنج ونتال وترنسفال، ومن أهم المدن درينان وسكانها 843,000 نسمة وجوهانسبرغ وسكانها 1,700,000 نسمة، ومن المدن الهامة بورت اليزابيث.


LocationSouthAfrica.svg

التضاريس:

معظم أرض جمهورية اتحاد أفريقيا هضبة مرتفعة، يزيد ارتفاعها على ألف متر ، ويحيط بهذه الهضبة من الجنوب والشرق نطاق جبلي يتمثل في جبال دراكثريرج، والكاب، وتفصل هذه الجبال بين الهضبة في الداخل، والسهول الساحلية، وتشغل الهضبة وسط جنوب أفريقيا، وفي شمالها منطقة ترنسفال، وفي الشمال الغربي صحراء نامبيا، وفي القسم الشرقي من الهضبة يوجد إقليم الفلد الأعلى ثم الفلد المخفض، وفي الشمال الشرقي يوجد إقليم البوشغلد، وفي الشرق جبال دراكنزبرج، وأهم أنهارها أورنج والفال، وينبعان من الشرق ويصبان في الغرب في المحيط الأطلنطي، ويشكل القسم الأدنى من نهر أورنج الحدود السياسية بين جنوب أفريقيا ونامبيا، ثم نهر لمبوبو ويتجه إلى الشمال ثم إلى الشرق فيصب في المحيط الهندي.

المنـاخ:

مناخ جنوب أفريقيا متعدد السمات بسبب موقعها، وارتفاع أرضها غير أنه يتفاوت من منطقة لأخرى بسبب اتساع رقعتها، ويتساقط المطر في بعض أجزائها صيفاً، غير أن القسم الجنوبي من البلاد يتسم بمناخ شبيه بمناخ البحر المتوسط، وتتساقط أمطاره في الشتاء، وتسود المناطق الشمالية الغربية مظاهر المناخ الصحراوي، بينما يسود الساحل الشرقي طراز مداري رطب في إقليم ناتال ، وعلى الهضبة مناخ مداري شبه جاف.

التركيبة السكانية، اللغات، الأديان:

يتكون السكان من عناصر سكانية متعددة، وكانوا ينقسمون حسب نظم التفرقة العنصرية إلى مجموعتين، البيض وغير البيض، وتبلغ نسبة السكان البيض 15% من إجمالي سكان البلد، بينما نسبة السكان الوطنيين وهم قبائل البانتو أكثر من 72%، بينما نسبة الملونين والآسيويين لا تتجاوز 13%، أي أن نسبة السكان غير البيض يقترب من 85%، وهم بذلك يشكلون أغلبية سكان جنوب أفريقيا، وتتكون الأقلية البيضاء من سكان جنوب أفريقيا من عناصر أوروبية هاجرت إلى جنوب أفريقيا أثناء احتلال هذه المنطقة، ومن العناصر البيضاء: هولنديين، وألمان، وبريطانيون، وفرنسيون، هذا الخليط من العناصر أطلق على نفسه الأفريكان خلق قومية جديدة من هذا الشتات، ويتحدثون لغة مشتقة من الهولندية ممزوجة بكلمات ألمانية وإنجليزية أطلقوا عليها اللغة الأفريكانية.

يتكون الأفريقيون، وهم الأغلبية من البانتو، ويتكونون من مجموعات عديدة منها مجموعة نجوني، ومجموعة تسونجا، ومن المجموعة الأولي السوازي، وشعب الزولو، وكان الزولو أمة مرهوبة الجانب قبل الاستعمار الأوروبي، ومن المجموعة الثانية قبائل تسونجا، ورنجا وتسوا، وإلى جانب المجموعتين السابقتين جماعات فندا، والسوتو، وهكذا تتعدد قبائل البانتو. أما العناصر الملونة فتشكل من خليط عن تزاوج بين الهونتنوت وهم عنصر أفريقي بالأوروبيين الأوائل، وخليط نتج عن تزاوج بين الآسيويين أو الأوروبيين، وتتكون العناصر الآسيوية من المهاجرين إلى جنوب أفريقيا تحت سخرة العمل من الماليزيين والهنود والباكستانيين. ومن لغات البلد الرسمية: خوسة، سوازية، نديبيلي، جنوب سوتو، شمال سوتو، تسونغة، تسوانة، فيندة.

أما بالنسبة لديانات السكان، فبحسب إحصائيات أجريت عام 2008 فإن 79.7% من السكان مسيحيون، 1.5 % مسلمون، 1.2 % هندوس، 0.2 % يهود، 0.3 % ديانات محلية، بينما يشكل اللادينيون 15 %.

الموارد الطبيعية:

الزراعة حرفة هامة في جنوب أفريقيا ، وذلك بسبب وفرة المقومات الزراعية، وتمارس في إقليم الفلد الأعلى ، وفي إقليم بوشفلد، وعلى سفوح المرتفعات، وفي السهول الساحلية، ومن منتجات جنوب أفريقيا، القمح، والذرة وقصب السكر، والقطن، ويفيض الإنتاج الزراعي عن حاجة السكان. وفي جنوب أفريقيا ثروة حيوانية تزيد عن حاجة البلاد أيضا، وكذلك الإنتاج المعدني من الذهب حيث تشغل جمهورية جنوب أفريقيا المركز الأول في الإنتاج العالمي منذ زمن، وللذهب دورة الهام في اقتصاد البلاد. كما تنتج الماس بكميات كبيرة، ويستخرج اليورانيوم، والفحم، ورغم هذا الثراء في الإنتاج الزراعي، والمعدني، والرعوي إلا أن الاتحاد يضيق عن توفير العدالة الإنسانية للغالبية العظمي من سكانه.

تاريخ السكان:

كانت جنوب أفريقيا قد استوطنها الصيادون وجامعو الثمار. وأخذت قبائل الخوخو Khoikhoi منذ 2000 سنة في تربية المواشي التي حصلوا عليها من قبيلة البانتو. وبدأ الرجل الأبيض من الهولانديين المزارعين (البوير) عام 1652م. في استيطان المنطقة داخل مستوطنات معزولة وانتشروا بها وكانت لهم لغتهم الخاصة التي كان يطلق عليها لغة أفريكانز Afrikaans، وانفصلوا عن البانتو الذين عاشوا بالداخل. ووفد المستوطنون الفرنسيون والألمان وعاشوا وسط هذه المجتمعات فيما بعد وعرفوا بالأفريكانرز Afrikaners. ومنذ مطلع سنة 1800م وصل المستوطنون البريطانيون وجاء الهنود كعمال في زراعة قصب السكر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وفي أثناء هذا القرن جاءت أقلية برتغالية، وكان البيض قد احضروا معهم لجنوب أفريقيا ثقافاتهم ولغاتهم من أوروبا ولاسيما البريطانيين، وجاء الآسيويون ولاسيما الهنود بثقافاتهم. والشواهد التاريخية تدل علي ان شعبي بوش Bush (سان San) وخوخو قد عاشا في جنوب أفريقيا منذ آلاف السنين، وكان شعب بوش كان يعيش علي الصيد وجمع الثمار بينما كان شعب خوخو رعوي يرعي قطعان الماشية منذ عدة قرون قبل مجيء الرجل الأبيض، وكانت جماعات من قبائل البانتو قد هاجرت من وسط أفريقيا واستقرت في المنطقة الخصبة بين جبال دراكنزبرج Drakensberg والمحيط الهندي. وهؤلاء هم أجداد قبائل الزولو Zulu واكسهوزا Xhosa وسوازي Swazi، وغيرها من المجموعات.

مع اكتشاف الماس والذهب في جنوب أفريقيا تزايدت أفواج الهجرة البريطانية, مما أدى إلى زيادة التوتر والصراع مع البوير تكللت بنشوب حرب البوير 1899-1903م التي انهزم فيها البوير، وتكون بعدها اتحاد جنوب أفريقيا تحت التاج البريطاني. واستمر النظام في ولائه للعرش البريطاني لحين انسحابه من الكمنولث البريطاني مارس 1961م، ملغيا منصب ممثل بريطانيا.


الباب الثاني: التمييز العنصري في جنوب أفريقيا:

التعـريف:

الفصل العنصري هو الفصل بين الأعراق المختلفة في الحياة اليومية، مثل: المستشفيات، المطاعم، أماكن الشرب، الفنادق، السينما، والفصل العنصري (Apartheid) هي كلمةٌ تؤدي معنى الانفصال في اللغة الأفريكانية (وهي كلمةٌ مشابهةٌ للشِـقين apart و hood في اللغة الإنجليزية). وتُعبرُ الكلمة عن النظام القانوني للعزل العنصري الذي فرضه الحزب الوطني في جنوب أفريقيا بين عامي 1948 وأوائل عام 1994.

خلفية نظام التمييز العنصري التاريخية قبل عام 1948:

منذ هبوط الرجل الأبيض أرض جنوب أفريقيا، ليستقر في هذه الأرض الثرية، وهو ينظر إلى السكان الأصليين نظرة دونية، تمثلت باستعباد السود، وفرض السطوة عبر أيديولوجية حكمت علاقتهم بهم، وفيما بعد تم تقنين هذا السلوك الذي تأصل طوال ثلاث قرون لتحول إلى نظام سياسي متبع له قوانين تشرعه وتحميه، ليعرف فيما بعد بنظام الفصل العنصري.

بدأ حكام الاستعمار البريطاني سن قوانين تنظم اجتياز المارة في مستعمرتي كيب و ناتال خلال القرن التاسع عشر. وكان هذا لتنظيم حركة السود من المناطق القبلية إلى المناطق التي يحتلها البيض والملونون والتي كان تحكمها بريطانيا. لم تصدر قوانينٌ لتقييد حركة السود في هذه المناطق وحسب، ولكنها كانت أيضا لحظر حركتهم من منطقةٍ إلى أخرى دون وجود عقد مُوقع يسمح بالاجتياز. لم يُسمح للسود بدخول شوارع المدن في مستعمرة كاب و ناتال بعد حلول الظلام، و كان عليهم حمل رخص الاجتياز في كل الأوقات.

كان قانونُ الانتخاب و الاقتراع لعام 1892 قد وَضَع َحدودا على الوسائل المالية والتعليمية للناخبين السود، كما حرم مشروع قانون جمعية ناتال الهنودَ من حق التصويت، بينما حرم مشروعُ قانون "تنظيم الاجتياز العام" السودَ من حق التصويت كليةً وحدهم في مناطق ثابتةٍ لهم وابتدأ نظام الاجتياز الشائن. تبع ذلك قوانينُ مثل: قانون التسجيل الآسيوي (1906) والذي تطلب من جميع الهنود التسجيل وحمل بطاقات اجتياز، وقانونُ جنوب أفريقيا (1910) والذي أثبت حقوق البيض في التصويت وأعطاهم الملكية السياسية الكاملة على غيرهم من المجموعات العرقية، وقانونُ الأراضي الأصلية (1913) و الذي حظر على السود خارج منطقة كيب شراءَ الأراضي خارج "المناطق الاحتياطية"، ومشروعُ قانون السكان الأصليين في المناطق الحضرية (1918) والذي صُمِّمَ لدفع السود إلى "المواقع"، وقانونُ المناطق الحضرية (1923) الذي بدأ الفصل العنصري في السُكنَى و قدم العمالة الرخيصة لمصانع البيض، و قانونُ حظر ذوي البشرة الملونة (1926) والذي حظر على السود ممارسة المهن المهارية، وقانونُ الإدارة الوطنية (1927) والذي جعل من التاج البريطاني الرئيس الأعلى لجميع الشؤون الأفريقية بدلا من رؤساء القبائل، و قانونُ أراضي السكان الأصليين والائتمان (1936) والذي أيد قانون الأراضي لعام 1913، وقانونُ تمثيل الأصليين (1936) والذي أخرج السود من قائمة الناخبين في مستعمرة كيب. الجزءُ الاخيرُ من تشريعات الفصل العنصري التي سنتها بريطانيا هو مشروع قانونُ الحيازة الآسيوية للأراضي (1946) و الذي حظر أي بيع ٍ للأراضي إلى الهنود.

بدأت حكومة الحزب المتحد تحت رئاسة جان سماطس الابتعاد عن التنفيذ الصارم لقوانين التفرقة العنصرية أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكن كان أن أنشأت السلطة التشريعية "لجنة سوير" للتحقيق في آثار سياسات الحزب المتحد وسط المخاوف أن يؤدي الدمجُ إلى الاستيعاب العنصري بين الأعراق المختلفة. وخلصت اللجنة أن التكامل سيؤدي إلى "خسارة الطبائع" التي تملكها جميع المجموعات العرقية.

دولـة التمييـز:

في أعقاب الانتخابات العامة التي جرت عام 1948، وضع الحزب الوطني – هو حزب معظم منتسبيه من الأفريكانز المتعصبين- برنامجه للفصل العنصري، وأضفى الطابع الرسمي على سياسات وممارسات التفرقة القائمة آنذاك، ثم وسع نطاقها لتأسيس نظام يقنن مفهوم العنصرية وهيمنة البيض على غيرهم من الأعراق، صنفت تشريعات الفصل العنصري السكان والزوار إلى المجموعات العرقية: أسود و أبيض وملون وآسيوي أو هندي. ظلت المرأة مستبعدة من الجزء الأكبر من شروط الاجتياز حتى عام 1956، حيث تعرضت محاولاتُ إصدار قوانين الاجتياز للمرأة لمقاومةٍ شرسة. 

في الاستعداد لانتخابات عام 1948، أقام الحزب القومي الأفريكانيHerenigde Nasionale Party (الحزب القومي مجموعُ الشمل) بزعامة رجل الدين البروتستانتي فرانسوا دانيال مالان حملته الانتخابية استنادا إلى سياسة الفصل العنصري. هزم الحزبُ القوميُ الحزبَ المتحدَ بصعوبة، ثم شكل حكومةً ائتلافية مع حزبٍ أفريكاني قومي آخر و هو Afrikaner Party.فأصبح مالان اول رئيس ٍللوزراء في مرحلة الفصل العنصري، و دُمِج الحزبانُ في وقتٍ لاحق لتشكيل الحزب الوطني (NP). بدأت الحكومة الائتلافية في تنفيذ سياسات الفصل العنصري على الفور، و في إصدار التشريعات التي تحظر الزواج المختلط و تُصنفُ الأفراد على أساس العرق. و أصبح قانونُ مناطق المجموعات (1950) (الذي صُمِّمَ ليفصل المجموعات العرقية جغرافيا) قلبَ نظام الفصل العنصري. صدر قانون المرافق المنفصلة في عام 1953، وبدأ تخصيصُ الأراضي البلدية لأعراق معينة دون غيرها بموجب هذا القانون. فخلق هذا الشواطيء و الحافلات والمستشفيات والمدارس والجامعات المنفصلة. و أصبحت لافتاتٌ مثل "للبيض فقط" تطبق على الأماكن العامة، بما في ذلك مقاعد الحدائق. كان التنافس الرياضي المشترك بين الأعراق مصدرا للاستهجان من النظام، ولكن لم تكن هناك قوانينُ فصل ٍعنصري ٍفي مجال الرياضة.لكن الحكومة أبقت الرياضة منفصلةً باستخدام تشريعاتٍ أخرى، مثل قانون مناطق المجموعات.

شددت الحكومة قوانينَ الاجتياز القائمة لمنع هجرة السود إلى جنوب أفريقيا "البيضاء"، مما اضطر السود في جنوب أفريقيا إلى حمل وثائق هوية، وكان يجب أن تكون للشخص الأسود وظيفةٌ حتى يُسمَحَ له بالعيش في المدينة، ومع ذلك استبعدت أسر العاملين في المدن، مما أدى إلى فصل الزوجات عن الأزواج والآباء والأمهات عن الأطفال.

في عام 1950، أعلن مالان نية الحزب الوطني إنشاء وزارةٍ لشئون الملونين. و قام خليفة مالان لرئاسة الوزراء جاي. جي. ستريخدوم(J.G. Strijdom)، بمنع الملونين والسود من حقوقهم في التصويت في مقاطعة كاب، حيث قدمت الحكومة ُالسابقة أولَ قانون لتمثيل الناخبين المنفصل في البرلمان في عام 1951. و لكن قامت مجموعةٌ من أربعةٍ من الناخبين وهم: جي هاريس ودبليو دي فرانكلين ودبليو دي كولينز وادغار دين، بالطعن في شرعية هذا القانون في المحكمة، وذلك بدعم ٍمن الحزب المتحد. أيدت محكمة كيب العليا هذا القانون، لكن محكمة الاستئناف أيدت الاستئناف لإيجادها القانونَ باطلا، و ذلك لأن أغلبية الثلثين في جلسةٍ مشتركة لمجلسي البرلمان ضروريةٌ لتغيير أي بنود راسخةٍ من الدستور. فقدمت الحكومة مشروع قانون محكمة البرلمان العليا (1952) و الذي يسمح للبرلمان بنقض قرارات المحكمة العليا. ولكن قامت المحكمة العليا ومحكمة الاستئناف بإعلان عدم صحة هذا القانون أيضا، فقامت حكومة ستريخدوم بزيادة عدد القضاة في محكمة الاستئناف من خمسةٍ إلى أحد عشر عضوا، وعينت قضاةً موالين للحزب الوطني في المقاعد الجديدة، ثم عرضت الحكومةُ قانون البرلمان في العام نفسه (1955)، والذي رفع عدد مقاعد مجلس الشيوخ من 49 مقعدا إلى 89. أُدخلت التعديلاتُ التي تسمحُ للحزب الوطني بالسيطرة على 77 من هذه المقاعد. ثم اجتمع البرلمانُ في جلسةٍ مشتركةٍ و مَرَرَ قانون التمثيل المنفصل للناخبين في عام 1956، و الذي أخرج الناخبين الملونين من قوائم الناخبين العامة، و أنشأ لهم قوائم منفصلة. ثم أُعيد المجلس إلى سابق عدده بعد التصويت على القانون مباشرةً. تم الاعتراض على قانون البرلمان في المحكمة العليا، ولكن رفضت محكمة الاستئناف المملوءة بقضاةٍ موالين للحزب الوطني هذا الطلب من المعارضة وأيدت قانون البرلمان وبالتبعية القانونَ الذي أزال حق الناخبين الملونين في الانتخاب العام.


قوانين الفصل العنصري

صدرت عدة قوانين لفصل الأعراق وقمع المقاومة من الخمسينيات و صاعدا. وأبقت ممارسة الفصل العنصري على العديد من خصائص سياسات التفرقة العنصرية للإدارات السابقة. ومن الأمثلة على ذلك، قانون الأراضي لعام 1913 و القوانين المتعددة لفصل الملونين في أماكن العمل. جادل قادة الحزب الوطني أن جنوب أفريقيا ليست أمةً واحدةً، وأن البلد تتألفُ من أربعة مجموعات عرقية: أبيض وأسود وملون وهندي. وتم تقسيم هذه المجموعات إلى ثلاثة عشر قومية أو فيدرالية عرقية. فشمل العرق الأبيض اللغتين الإنجليزية والأفريكانية، وتم تقسيم العرق الأسود إلى عشرة جماعاتٍ مماثلة. أدى هذا التشريعُ إلى جعل العرق الأبيض العرقَ المهيمن على بقية الأعراق. كانت قوانين "الفصل العنصري" الرئيسية على النحو التالي:

  • قانونُ حظر ِالزيجاتِ المختلطة لعام 1949 الزواج بين الأشخاص من أجناسٍ مختلفة، واعتبَرَ قانون الفجور لعام 1950 العلاقات الجنسية مع شخص من جنس مختلف جريمةً جنائية.

  • حَوَلَ قانونُ تسجيل السكان لعام 1950 التصنيفَ العنصري إلى أمر رسمي حيث أمر بإصدار بطاقةِ هويةٍ لجميع الأشخاص فوق سن الثامنة عشرة، مكتوبٌ عليها العرق الأصلي لكل شخص.

  • في عام 1950، قَسَمَ قانونُ مناطق المجموعات البلاد إلى مناطق خاصة للمجموعات العرقية المختلفة. وكان هذا القانون الأساس الذي قام عليه الفصلُ السياسي والاجتماعي.

  • أنشأ قانون سلطات البانتوستانات لعام 1951 هياكلَ حكوميةً مستقلةً للسود، وكان أولَ تشريع ٍلدعم خطةِ الحكومةِ للتطوير المنفصل في البانتوستانات.

  • سمحت تشريعاتٌ أخرى في عام 1951 للحكومة بهدم أحياء السود الفقيرة وأجبرت القوانينُ أصحابَ العمل البيض دفعَ تكاليفِ بناءِ مساكنَ لهؤلاء العمال السود المسموح لهم بالإقامة في المدن ‘البيضاء’.

  • حظر قانون المرافق المنفصلة (1953) أن يستخدمَ الناسُ من أجناس ٍ مختلفةٍ نفس المرافق العامة مثل المطاعم وحمامات السباحة العامة و المراحيض.

  • هدفت المزيد من القوانين إلى قمع المقاومة، وخصوصا المقاومة المسلحة للفصل العنصري. فحظر قانون حظر الشيوعية (1950) الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا وغيرَه من الأحزاب السياسية التي اختارت الحكومة ُأن تصفها بالشيوعية. كما منعت قوانينٌ أخرى التجمعاتِ غير المنظمة، وأغلقت بعض المنظمات التي مثلت تهديدا للحكومة.

  • جاء قانون في 1956 ليرسم خطوط التمييز العنصري في الوظائف.

  • عزز قانون الحكم الذاتي للسود (1958) سياسة الحزب الوطني الراسخة لإيجاد مناطق قومية مستقلة اسميا للسود. فتم اقتراح إنشاء وحدات البانتو "ذاتية الحكم"، وأن تُفَوَضَ لها صلاحياتٌ إدارية، مع وعدٍ لاحقٍ بالاستقلال و الحكم الذاتي.

  • وضع "قانون مؤسسة الاستثمار في وحدات البانتو" (1959) آليةً لنقل رؤوس الأموال للبانتوهات لخلق فرص العمل هناك.

  • في عام 1953، أوجد "قانونُ التعليم في البانتوهات" نظاما مستقلا لتعليم الطلاب الأفارقة، و في عام 1959 تم إنشاءُ جامعاتٍ مستقلةٍ لكل من السود والملونين والهنود. لم يُسمح للجامعات القائمة بإلحاق طلاب سود جدد.

  • أجازت قوانينٌ في عام 1967 للحكومة وقف التنمية الصناعية في المدن البيضاء وتوجيهها للأوطان البديلة للسود.

  • مَثَلَ "قانونُ جنسية الوطن الأسود" لعام 1970 بدايةَ مرحلةٍ جديدةٍ في استراتيجية البانتوستانات، حيث غيرت وضع السود من مواطنين لجنوب إفريقيا إلى مواطنين لواحدة من عشرة مناطق للحكم الذاتي. و كان الهدف من ذلك ضمان أن يصبح البيضُ الأغلبية السكانية في جنوب أفريقيا، عن طريق السماح للبانتوستانات العشرة بـ"الاستقلال".

  • أوجب "مرسوم الوسيط (اللغة) الأفريكاني" لعام 1974 استخدام الأفريقية والانجليزية على قدم المساواة في المدارس الثانوية خارج أوطان السود الأصلية.

توسعت البيروقراطية للإشراف على قوانين الفصل العنصري، و بحلول عام 1977، كان هناك أكثر من نصف مليون موظف أبيض في الدولة.

الوحدة بين البيض!

قبل أن تصبح جنوب أفريقيا جمهورية عام 1961م، تم قولبة السياسة البيضاء فيها على أساس الانقسام بين الأفريكانيين المؤيدين للجمهورية، والانجليزيين المعارضين للجمهورية، حيث ظلت تَركة حرب بوير عاملا مهما لدى البعض. وعندما تحققت الجمهورية، دعا فيرويرد إلى مزيدٍ من تحسين العلاقات بين الذين من أصل بريطاني والأفريكانيين، وادعى أن الفرق الوحيد الآن هو بين المعارضين و المؤيدين للفصل العنصري. وأن التقسيم العرقي لن يظل بين المتحدثين بالانكليزية والمتحدثين بالأفريكانية، وإنما سيكون بين الأبيض والأسود. أيد معظم الأفريكانيون مفهوم الإجماع الأبيض لضمان سلامتهم. كان البيضُ من أصل بريطاني منقسمون.صوت العديد منهم ضد الجمهورية، ولا سيما في ناتال، حيث أدلى أكبر عدد من الأصوات ب"لا". ولكن البعض منهم اعترف بالحاجة للوحدة البيضاء في وقتٍ لاحق، لاقتناعهم بالاتجاه المتنامي لإنهاء الاستعمار في أماكن أخرى في أفريقيا، مما تركهم في قلق ٍ ومخاوف. كما ترك تعليقُ "رياح التغير" الذي نطق به هارولد ماكميلان الفصيلَ البريطاني بشعور أن بريطانيا قد تخلت عنهم. فعمد متحدثوا الإنجليزية الأكثر تحفظا إلى دعم فيرويرد؛ ولكن انزعج آخرون من قطع العلاقات مع بريطانيا وظلوا على ولائهم للتاج البريطاني. وكانوا في إستياءٍ شديد لاضطرارهم الاختيار بين الجنسية البريطانية والجنوب أفريقية. و مع أن فيرويرد حاول الإصلاح بين الآراء المختلفة، أظهر الاستطلاع التالي حجما ضئيلا من التأييد، مظهرا أن أغلبية المتحدثين بالانجليزية ظلوا لا مبالين وأن فيرويرد فشل في التوحيد بين السكان البيض.

نظـام الوطن البديل:

تم تجريد السود في جنوب أفريقيا من الجنسية، وأصبحوا (بموجب القانون) مواطنين لدى واحدٍ من أحد عشر وطنا قبليا (بانتوستان) تُدارُ كلٌ منها بالحكم الذاتي، وأصبحت أربعة مناطق من هذه العشرة ولاياتٍ مستقلةً اسميا. احتلت الأوطان البديلة أجزاء صغيرةٍ نسبيا وغير منتجةٍ اقتصاديا من البلاد. ولكن العديد من السود في جنوب أفريقيا لم يقيموا في "أوطانهم" المحددة. حرم نظام الوطن البديل السود من حقوق التصويت في جنوب أفريقيا البيضاء، وقيد حقوقهم الانتخابية للأوطان البديلة التي تم تحديدها لهم. فصلت الحكومة التعليم، والرعاية الطبية، وغيرها من الخدمات العامة، وقدمت للسود خدماتٍ أدنى إلى حد كبير من تلك التي كانت تقدمها للبيض، وإلى حد ما أقل من تلك المقدمة إلى الهنود والملونين. كان نظام التعليم في مدارس السود يهدف إلى إعدادهم لحياة ٍفي الطبقة العمالية. عندما جاء الحزب الوطني إلى السلطة في عام 1948، كان سعيه الأول هو الإبقاء على الفصل العنصري. و كانت اللبنات الأساسية لإنفاذ الفصل العنصري:

  • ترتيب السكان إلى المجموعات العرقية: أفريقيين وملونين وهنود وبيض.

  • العزل العنصري الصارم في المناطق الحضرية.

  • تقييد التحضر الأفريقي.

  • السيطرة على نظام محكم أكثر تقييدا للعمالة المهاجرة.

  • تشديد اللهجة بالنسبة للمفاهيم التقليدية والقبلية في الإدارة الأفريقية مما كان عليه التركيز في الماضي.

  • التعزيز الكبير للتشريع الأمني والتحكم. 

تم تأسيس نظام "الأوطان" على أساس هذه المبادئ. فلم تكن مؤسسة الانفصال مؤسسة جديدة. فكان هناك، على سبيل المثال، "الاحتياطيات" التي أنشئت تحت الحكم البريطاني في القرن التاسع عشر. و تحت حكم فيرويرد، اعتُبرت هذه الأرض وسيلة للسيطرة على زيادة حركة السود في المدينة. فكان السود يعملون في المدن ولكنهم يعيشون في المناطق الخاصة بهم، حيث يتم إيوائهم وتعليمهم والسماح لهم بانتخاب حكوماتهم الداخلية. كان الهدف النهائي هو إيجاد خطة لعشر ولايات وطنية مستقلة من هذه الأوطان البديلة.

مررت الدولة قانونان مهدا الطريق لتحقيق الفصل العنصري الكبير و الذي تمحور حول فصل الأجناس على نطاق واسع، من خلال التقسيمات المكانية، أي إجبار الناس على العيش في أماكن منفصلة بحسب العرق. وكان أول قانون للفصل العنصري الكبير قانون تسجيل السكان 30 لعام 1950، و الذي حتم على جميع المواطنين أن يصنفوا وفقا للعرق ثم يسجل التصنيف في بطائق هويةٍ تسمح بالاجتياز. وشكلت فرق أو مجالس رسمية من أجل التوصل إلى نتيجة نهائية بشأن الناس الذين ليس لهم عرق واضح. وتسبب هذا في الكثير من الصعوبات خاصة بالنسبة للأشخاص ذوي البشرة الملونة لدى فصل أسرهم عنهم بسبب تسميتهم لأعراق أخرى. 

الركيزة الثانية من الفصل العنصري الكبير هو قانون مناطق المجموعات 21 لعام 1950. حتى ذلك الحين، كانت تحوي معظم المستوطنات أناسا من مختلف الأجناس يعيشون جنبا إلى جنب. وضع هذا القانون الحد للمناطق المختلطة و قرر مكان معيشة الأشخاص بناءَ على أعراقهم. خصص لكل عرق منطقة خاصة، والذي تم استخدامه في سنوات لاحقة كأساس للترحيل القسري. 

المجموعات العرقية أو الوحدات الوطنية التي كان يقصد لها أن تتحول إلى أوطان بديلة هي: شمال سوثو - جنوب سوثو - سوانا - زولو - سوازي - زوسا - سونجا - فيندا. قسمت وحدة زوسا في السنوات اللاحقة إلى الترانسكاي و السيسكاي. و أضيفت وحدة ديبيل لاحقا بعد أن تم "اكتشافها" من قبل نظام الفصل العنصري. بررت الحكومة خططها على أساس أن جنوب أفريقيا تتكون من عدة "أمم"، مؤكدين أن" سياسة الحكومة ليست التفرقة بناءً على العرق أو اللون، و لكنها سياسة فصل لقومياتٍ مختلفة على أساس الوطنية، مانحين لكل قومية حق تقرير المصير داخل حدود أوطانهم البديلة - و لذا كانت هذه السياسة للفصل". و بدأت سياسة التنمية المنفصلة بوصول فيرويرد إلى السلطة في عام 1958. حيث بدأ في تنفيذ هيكل الأوطان البديلة باعتبارها حجر الزاوية في تطور الانفصال. وجاء فيرويرد ليعتقد منح "الاستقلال" إلى هذه الأوطان. أنشئت صناعات الحدود و مؤسسة بانتو للاستثمار لتعزيز التنمية الاقتصادية وتوفير فرص العمل في الأوطان البديلة (لإبقاء السود بعيدا عن جنوب أفريقيا "البيضاء").

قررت لجنة توملينسون عام 1954 أن الفصل العنصري له ما يبرره، و لكن اللجنة ذكرت وجوب إعطاء المزيد من الأرض إلى الأوطان البديلة، و التي تساعد على تنمية الصناعات الحدودية. في عام 1958 صدر قانون تعزيز الحكم الذاتي للسود، و بدأ أنصار الفصل العنصري يجادلون أنه بتطبيق الفصل فإن السود لن يكونوا من مواطني جنوب أفريقيا، ولكنهم سيصبحون من مواطني الأوطان البديلة المستقلة. وبناء على هذا النموذج، فإن السود أصبحوا "عمالا ضيوفا" أجانب، يعملون فقط في جنوب أفريقيا و يحملون تصاريح عمل مؤقتة.

حاولت حكومة جنوب أفريقيا إلى تقسيم البلد إلى عدد من الولايات المستقلة. فخصصت نحو عشرة في المائة من الأراضي للأوطان السوداء البديلة، والتي تمثل خمسين في المائة من الأراضي الصالحة للزراعة في جنوب أفريقيا. وقسمت الثلاثة عشر في المئة إلى عشرة أوطان بديلة للسود بين ثمانية عرقيات. منحت أربعة من هذه الولايات الاستقلال، على الرغم من عدم اعتراف أي دول أخرى بذلك. كان من المفترض أن يتحول كل وطن إلى دولة مستقلة تسمح للأعراق الثمانية السوداء بالنمو وإيجاد الهوية الوطنية والثقافة واللغة المستقلة؛ ترانسكاي -- زوسا (أعطيت "الاستقلال")، سيسكاي -- زوسا (أعطيت "الاستقلال "في عام 1981)، بوفوثاتسوانا -- التسوانية (أعطيت "الاستقلال")، الفيندا -- الفيندا ( أعطيت "الاستقلال")؛ كوازولو -- زولو ، ليبووا -- بيدي، كانجوان -- سوازي، قواقوا -- سوثو، جازانكولو -- سونجا و كوانديبيل -- ديبيل. كان لكل وطن السيطرة على نظام التعليم و الصحة الخاص به.

لم تختر كل الأوطان الحكم الذاتي. الولايات التي اختارت الحكم الذاتي هي ترانسكاي (1976)، بوفوثاتسوانا (1977)، الفيندا(1979) وسيسكاي (1981). وساعة منح أي ولاية الاستقلال، كانت تلغى الجنسية الجنوب أفريقية لمواطنيها، ويعطون جنسية الوطن البديل. وكان يحصل هؤلاء على جوازات سفر بدلا من بطاقات الاجتياز. ألغيت الجنسية لمواطني ولايات "المحكومة ذاتيا" أيضا، والذي كان معناه أنهم لم يعودوا من جنوب أفريقيا قانونا. حاولت حكومة جنوب أفريقيا إيجاد و عرض الشبه بين رؤيتهم لمواطني الدول السوداء و المشاكل التي تواجهها البلدان الأخرى من خلال دخول المهاجرين غير الشرعيين.

ففي حين كانت بلدان أخرى تعمل على تفكيك التشريعات التمييزية لكي تصبح أكثر تحررا في القضايا العرقية، فإن جنوب أفريقيا استمرت في بناء هيكل تشريعات يشجع العنصرية و الفصل العرقي.

أيد العديد من البيض في جنوب أفريقيا الفصل العنصري بسبب الديموغرافيا، أي أن الانفصال والتقسيم كان وسيلة لتجنب ديمقراطية صوت-لكل-شخص والديمقراطية في إطار دولة جنوب أفريقيا موحدة، والذي سيجعل البيض أقلية عاجزة سياسيا. وبالإضافة إلى ذلك ، فإن قادة الأوطان السوداء المذكورة أصبحوا مدافعين مهمين عن الفصل العنصري، أمثال قيصر ماتانزيما وبانتو هولوميسا وأوبا كوزو ولوكاس مانجوب ومانجوسوثو بوتوليزي.

ركز الفصل العنصري تركيزا شديدا على "تقرير المصير" و"الاستقلال الثقافي" لمختلف المجموعات العرقية. ولهذا السبب فقد تم التشديد بقوة على التعليم ب"اللغة الأم". وهكذا، فبالإضافة إلى تدفق الموارد لتطوير المواد التعليمية بالأفريقية، فقد تدفقت الموارد مذلك لتطوير الكتب المدرسية في لغات سوداء مثل الزولو والزوساو والسوثو والتسوانية والبيدي. ونتيجةٍ لذلك، كانت واحدة من النتائج المترتبة على الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أن يعرف السكان القراءة والكتابة باللغات الأفريقية السوداء (وهو شيءٌ نادرٌ في أفريقيا، حيث عادة ما يكون التعليم باللغات الاستعمارية مثل الإنجليزية والفرنسية).

الإبعـاد القسري:

نفذت الحكومة سياسة 'التوطين' خلال الستينات و السبعينات وأوائل الثمانينات، لإجبار الناس على الانتقال إلى مناطقهم العرقية. يرى البعض أن ما يزيد على ثلاثة ملايين ونصف مليون شخص أجبروا على إعادة التوطين خلال هذه الفترة. وشملت هذه الإزالات الناس الذين أعيد توطينهم نتيجة لبرامج تطهير الأحياء الفقيرة، والعمال المستأجرين في المزارع المملوكة للبيض، وسكان ما يسمى ب 'المواقع السوداء'، المناطق السوداء التي تحيط بها مزارع يملكها البيض، وأسر العاملين الذين يعيشون في البلدات القريبة من الأوطان، والناس الفائضين من المناطق الحضرية، بما فيهم الآلاف من الناس من كيب الغربية (التي كانت قد أعلنت 'منطقة مفضلة للعمالة الملونة'، والذين تم نقلهم إلى أوطان ترانسكاي وسيسكاي. وأشهر عمليات الترحيل كان الترحيل القسري في الخمسينات لستين ألف شخص إلى بلدة سويتو الجديدة (و اسمها اختصارٌ لجملة "البلدات الجنوبية غربية").

حتى 1955 كانت "بلدة صوفيا" Sophiatown واحدة من المناطق الحضرية القليلة التي سمح للسود فيها تملك الأراضي، وكانت تتطور ببطءٍ إلى أحياءٍ فقيرة متعددة الأعراق. ومع نمو الصناعة في جوهانسبرغ، أصبحت "بلدة صوفيا" موطنا للعمالة السوداء شديدة التوسع، لأنها مريحة وقريبة من المدينة. وكان في البلدة المسبح الوحيد للأطفال السود في جوهانسبورغ. بوصفها واحدة من أقدم مستوطنات السود في جوهانسبورغ، كان للبلدة أهمية رمزية لـ50،000 من مواطنيها السود، سواء من حيث حيويتها أو ثقافتها الفريدة من نوعها. و لكن على الرغم من احتجاج حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بقوة وحملة الدعاية العالمية المناهضة، بدأت إزالة صوفيا تاون يوم 9 فبراير 1955، في إطار خطة إزالة المناطق الغربية. في الساعات الأولى من الصباح، دخلت الشرطة المدججة بالسلاح صوفيا تاون لإجبار السكان على ترك منازلهم وتحميل ممتلكاتهم على الشاحنات الحكومية. تم نقل السكان إلى قطعة أرض كبيرة، على بعد ثلاثة عشر ميلا (19 كيلومترا) من وسط المدينة، وهي المنطقة المعروفة بأرض المروج (Meadowlands) والتي كانت الحكومة قد اشترتها في 1953. أصبحت ميدولاندز جزءا من المخطط الجديد لمدينة سوداء جديدة باسم سويتو. دمرت الجرافات أحياء صوفيا تاون الفقيرة، وبني ضاحيةٌ بيضاء سميت Triomf (النصر) مكانها. تكرر هذا النمط من الترحيل القسري والتدمير على مدى السنوات القليلة التالية، ولم تقتصر على السكان المنحدرين من أصل أفريقي فقط. فقد تمت عمليات ترحيل قسري من مناطق مثل كاتو مانور (Mkhumbane) في ديربان، والمنطقة السادسة في كيب تاون، حيث اضطر 55000 شخص هندي و ملون إلى الانتقال إلى بلدات جديدة على مسطحات كيب، ونفذت هذه العمليات بموجب قانون مناطق المجموعات لعام 1950. وفي نهاية المطاف، تم نقل ما يقرب من 600000 شخص ملون وهندي وصيني بموجب هذا القانون. كما اضطر 40000 شخص أبيض للتحرك عندما نقلت أراضي من "جنوب أفريقيا البيضاء" إلى الأوطان السوداء.

المقاومة الداخلية:

أثار نظام الفصل العنصري مقاومة داخلية كبيرة. وردت الحكومة على سلسلة من الانتفاضات الشعبية والاحتجاجات بوحشية الشرطة، والذي أدي بدوره إلى زيادة الدعم المحلي للكفاح المسلح. جاءت المقاومة الداخلية لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا من عدة قطاعات من المجتمع، وأسفرت عن تأسيس منظمات مختلفة مخصصة للاحتجاجات السلمية والمقاومة السلبية والعصيان المسلح.

في عام 1949، سيطر جناح الشباب في المؤتمر الوطني الأفريقي (حزب المؤتمر الوطني الأفريقي) على المنظمة، وبدأت الدعوة السوداء القومية الراديكالية. اقترحت القيادات الشابة الجديدة أن السلطة البيضاء لا يمكن إسقاطها إلا من خلال شن حملات واسعة النطاق. في عام 1950، شهدت تلك الفلسفة انطلاق برنامج العمل، وسلسلةً من الإضرابات والعصيان المدني و المقاطعات التي أدت أحيانا إلى مواجهات عنيفة مع السلطات.

في عام 1959 شكل مجموعةٌ من أعضاء حزب المؤتمر الوطني الأفريقي حزب مؤتمر عموم أفريقيا (PAC)، والذي نظم تظاهرة احتجاج على بطاقات الاجتياز في 21 مارس 1960. عقدت واحدة من تلك الاحتجاجات في مدينة شاربفيل، ولقي 69 شخصا مصرعهم فيها على يد الشرطة في مذبحة شاربفيل. في أعقاب حادثة شاربفيل، أعلنت الحكومة حالة الطوارئ. اعتقل أكثر من 18000 شخص، بمن فيهم قادة المؤتمر الوطني الأفريقي ومؤتمر الوحدويين الأفريقيين، وكانت كلٌ من المنظمتين محظورا. فتحولت المقاومة إلى العمل في الخفاء، مع وجود بعض قادتها في المنفى في الخارج، بينما عمل آخرون في الحملات المحلية والتخريب والإرهاب.

في أيار/مايو 1961، و قبل إعلان قيام جمهورية جنوب أفريقيا، دعت جماعة تمثل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي المحظور لمفاوضاتٍ بين الأفرادٍ من الجماعات العرقية المختلفة، وهددوا بالقيام بتظاهرات وإضرابات خلال افتتاح الجمهورية إذا تم تجاهل دعوتهم. وعندما تغافلت الحكومة عنهم، قام المضربون بتنفيذ التهديدات (و كان من بين المنظمين الرئيسيين آنذاك نيلسون مانديلا الذي كان يبلغ من العمر 42 عاما، و كان من أصل ثيمبوي). فردت الحكومة على وجه السرعة عن طريق إعطاء الشرطة سلطة القبض على الأشخاص لمدة وصلت إلى اثني عشر يوما، واعتقال العديد من قادة الإضراب وسط العديد من حالات وحشية الشرطة. أدت هزيمة المتظاهرين إلى إلغائهم الإضراب. ثم اختار المؤتمر الوطني الأفريقي أن يطلق الكفاح المسلح من خلال جناح عسكري شكله حديثا، و المسمى أومخونتو سيزوي (MK)، والذي قام لاحقا بأعمال تخريب على هياكل الدولة التكتيكية. قام الجناح بتنفيذ أول مخطط تخريب في 16 كانون الأول/ديسمبر 1961، في الذكرى السنوية لمعركة نهر الدم.

تم إنشاء حركة وعي السود من قبل طلبة في التعليم العالي تأثروا بحركة القوة السوداء الأميركية. احتفت الحركة بفخر السود وبالعادات الأفريقية، وفعلت الكثير لتغيير مشاعر النقص التي غرسها النظام العنصري بين السود. تم اعتقال قائد الحركة ستيف بيكو في 18 آب/أغسطس 1977، وقتل في السجن.

قام طلاب المدارس الثانوية في عام 1976 في سويتو إلى الشوارع في انتفاضة سويتو للاحتجاج على التدريس القسري بالأفريكانية. وفي يوم 16 يونيو، فتحت الشرطة النار على الطلاب في ما كان من المفترض أن يكون احتجاجا سلميا. ووفقا لتقارير رسمية، فقد لقي 23 شخصا مصرعهم، ولكن وكالات الأنباء تناقلت أن العدد وصل إلى مقتل 600 وإصابة 4000. وفي السنوات التالية، نشأت العديد من المنظمات الطلابية للاحتجاج ضد الفصل العنصري، و كانت هذه المنظمات مركزية في مقاطعات المدارس في المناطق الحضرية في عامي 1980 و 1983، وكذلك في المناطق الريفية في عامي 1985 و 1986.

و بالتوازي مع الاحتجاجات الطلابية، قامت النقابات العمالية بالاحتجاج في عامي 1973 و 1974. وبعد عام 1976، اعتبر أن النقابات والعمال لعبا دورا هاما في الكفاح ضد الفصل العنصري، وملء الفراغ الذي أحدثه حظر الأحزاب السياسية. وفي عام 1979، اكتسبت النقابات العمالية الصفة القانونية، و أمكن أن تشترك في التفاوض الجماعي، لكن ظلت الإضرابات غير قانونية.

في نفس الوقت تقريبا، ظهرت الكنائس و الجماعات الكنسية كنقاط محورية للمقاومة. و لم يكن زعماء الكنيسة في مأمن من الملاحقة، وحظرت بعض المنظمات العقائدية، ولكن رجال الدين عموما ملكوا حرية أكبر لانتقاد الحكومة من الجماعات المسلحة.

على الرغم من تأييد أغلبية البيض للفصل العنصري، فقد عارضه 20 في المئة منهم. وحرك برلمانيون أمثال هيلين سوزمان و كولين ايجلين وهاري شوارتز المعارضة البرلمانية. وكانت المقومة خارج البرلمان متركزة إلى حد كبير في الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا ومنظمة نسائية تسمى "الوشاح الأسود". كما أن المرأة شاركت بشكل ملحوظ في المنظمات النقابية والأحزاب السياسية المحظورة.

الأمـم المتحدة والتحرك الدولي:

في أول تجمع للأمم المتحدة في عام 1946، وضعت جنوب أفريقيا على جدول الأعمال. وكان الموضوع الرئيسي في مسألة جنوب أفريقيا هو التعامل مع الهنود، والذي كان سببا لاختلافٍ كبير بين جنوب أفريقيا والهند. وفي عام 1952، نوقش الفصل العنصري من جديد في أعقاب حملة التحدي، وشكلت الأمم المتحدة فريق عمل لمراقبة التقدم الذي يتم إحرازه بشأن الفصل العنصري والوضع العنصري في جنوب أفريقيا. ورغم أن سياسات جنوب أفريقيا العنصرية كانت سببا للقلق، اتفقت معظم البلدان في الأمم المتحدة على أن هذا هو شأن داخلي، وأنه يقع خارج نطاق اختصاص الأمم المتحدة.

و لكن في أبريل 1960، تغير موقف الأمم المتحدة المحافظ فيما يتعلق بنظام الفصل العنصري وذلك بعد مذبحة شاربفيل، ووافق مجلس الأمن لأول مرة على اتخاذ إجراءات متضافرة ضد نظام الفصل العنصري، وطالب بوضع حد للفصل العنصري والتمييز. بدأ المؤتمر الوطني الأفريقي حملة الكفاح المسلح عام 1960، والتي أدينت في وقت لاحق بالقيام بـ193 عمل إرهابي بين عامي 1961-1963، و التي تتلخص أساسا في التفجيرات وعمليات قتل ٍ للمدنيين. شنت حكومة جنوب أفريقيا المزيد من القمع، وحظرت حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ومؤتمر الوحدويين الأفريقيين. وفي عام 1961 توقف الأمين العام للأمم المتحدة داغ همرشولد في جنوب أفريقيا، وقال فيما بعد أنه لم يتمكن من التوصل إلى اتفاق مع رئيس الوزراء فيرويرد.

يوم 6 نوفمبر 1962، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 1761، والذي أدان سياسات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وفي عام 1966، عقدت الأمم المتحدة أول العديد من الندوات عن الفصل العنصري. وأعلنت الجمعية العامة في 21 آذار/مارس اليوم الدولي للقضاء على التمييز العنصري، في ذكرى مذبحة شاربفيل. وفي عام 1971، استنكرت الجمعية العامة مؤسسة الأوطان البديلة، وصدر اقتراح في عام 1974 لطرد جنوب أفريقيا من الأمم المتحدة، ولكن قوبل هذا بالفيتو من قبل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وجميع شركاء التجارة الرئيسيين لجنوب أفريقيا. 

في يوم 7 أغسطس 1963، أصدر مجلس الأمن القرار رقم 181 الذي دعا إلى حظر الأسلحة لجنوب أفريقيا، وفي العام نفسه، تم تشكيل لجنة خاصة لمناهضة الفصل العنصري للتشجيع والإشراف على خطط العمل ضد النظام العنصري. من عام 1964، أوقفت الولايات المتحدة وبريطانيا تجارة السلاح مع جنوب أفريقيا. وفي عام 1977، أصبح قرار الأمم المتحدة الاختياري بحظر الأسلحة لجنوب أفريقيا قرارا إلزاميا مع إصدار الأمم المتحدة قرار مجلس الأمن رقم 418.

كثيرا ما نوقش جدوى العقوبات الاقتصادية المفروضة على جنوب إفريقيا، فيما إذا كانت وسيلةً فعالة للضغط على حكومة الفصل العنصري. طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1962، أن يقطع أعضاءها العلاقات السياسية والمالية و خطوط النقل مع جنوب أفريقيا. في عام 1968،اقترح وضع حد لجميع العلاقات الثقافية والتعليمية والرياضية أيضا. و لكن العقوبات الاقتصادية لم تجعل إلزامية بسبب معارضة شركاء جنوب أفريقيا التجاريين الرئيسيين.

في عامي 1978 و 1983 أدانت للأمم المتحدة جنوب أفريقيا في المؤتمر العالمي لمناهضة العنصرية، و بدأت حركة مهمة للضغط على المستثمرين لسحب استثماراتهم من شركات جنوب أفريقيا أو الشركات التي تتعامل مع جنوب أفريقيا. بعد الكثير من النقاش، وبحلول أواخر الثمانينات سنت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة و 23 دولةٍ أخرى قوانين لوضع مختلف العقوبات التجارية على جنوب أفريقيا. وكانت هناك حركة تصفية استثمارات في العديد من البلدان على نطاق واسع، بوجود مدن ومحافظات في جميع أنحاء العالم تسن مختلف القوانين واللوائح المحلية التي تحظر تسجيل الشركات الخاضعة لولايتها من التعامل التجاري مع جنوب أفريقيا أو شركاتها و مصانعها أو بنوكها.

فيما نمت المعارضة الدولية للفصل العنصري، وفرت دول الشمال الأوروبي الدعم المعنوي والمالي للمؤتمر الوطني الأفريقي. ففي يوم 21 فبراير 1986 (في الأسبوع قبل أن يتم اغتياله) ألقى رئيس الوزراء السويدي أولوف بالمه كلمة رئيسية للبرلمان الشعبي السويدي المضاد للفصل العنصري في ستوكهولم. في حديثه للمئات من المتعاطفين لمناهضة الفصل العنصري، فضلا عن قادةٍ ومسؤولين من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وحركة مناهضة الفصل العنصري مثل أوليفر تامبو، أعلن بالمه: " لا يمكن إصلاح الفصل العنصري، بل لابد من القضاء عليها". 

وقفت دولٌ غربيةٌ أخرى مواقف أكثر تساهلا. ففي الثمانينات، اتبعت إدارات الرئيس الأمريكي ريجان ورئيسة الوزراء البريطانية ثاتشر سياسة مشاركة بناءة مع حكومة الفصل العنصري، وعارضت الإدارتان إيقاع عقوبات اقتصادية على جنوب أفريقيا وبرروا ذلك بحرية التجارة ورؤية جنوب أفريقيا حصنا ضد الماركسية في جنوب أفريقيا. وأعلنت ثاتشر حزب المؤتمر الوطني الأفريقي منظمةً إرهابية. ولكن بحلول أواخر الثمانينات، مع تحول موجة الحرب الباردة ولا علامة لحل سياسي في جنوب أفريقيا، بدأ الصبر الغربي تجاه حكومة الفصل العنصري ينفذ. بحلول عام 1989، حبذت مبادرة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة فرض عقوبات اقتصادية (والتي أدرجت كقانون شامل مناهض للفصل العنصري)، وفضلت إطلاق سراح نيلسون مانديلا وتسوية تفاوضية تضم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. بدأت تاتشر أيضا باتخاذ خطٍ مماثل، لكنها أصرت على تعليق الكفاح المسلح لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. ربما كان لمشاركة بريطانيا والولايات المتحدة الاقتصادية في جنوب أفريقيا بعض النفوذ، مع ممارسة الضغط من البلدين في اتجاه المفاوضات. ولكن بريطانيا والولايات المتحدة لم يكونا على استعدادٍ لتطبيق الضغط الاقتصادي بسبب مصالحهما المتعددة الجنسيات في جنوب أفريقيا، مثل شركة التعدين أنجلو أمريكان. بالرغم من رفض المحكمة دعوى تعويض بارزة ضد هذه الشركات في عام 2004، أيدت محكمة الاستئناف الأمريكية حكم استئنافٍ يسمح بدعوى أخرى تسعى لتعويضات تقدر بما يزيد عن 400 مليار دولار من كبرى الشركات العالمية المتهمة بمساعدة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. 

الانفتاح على الخارج:

في عام 1966 كان بي جاي فورستر رئيس وزراء جنوب أفريقيا. لم يكن فورستر مستعدا لتفكيك نظام الفصل العنصري، ولكنه حاول تغيير عزلة جنوب أفريقيا وإنعاش سمعة البلد العالمية، حتى مع البلاد التي يحكمها السود في أفريقيا. وأسمى فورستر هذا المفهوم "سياسة الانفتاح على الخارج"، وكانت التعبيرات الطنانة لاستراتيجيته "الحوار" و"الانفراج"، مما دل على انخفاض حدة التوتر.

كان استعداد فورستر لإجراء محادثات مع القادة الأفارقة على النقيض من رفض فيرويرد التعامل مع قادةٍ مثل أبو بكر تافاوا باليوا من نيجيريا في عام 1962 وكينيث كوندا من زامبيا في 1964. فاجتمع فورستر مع قادة البلاد المجاورة (ليسوتو وسوازيلاند وبتسوانا) في عام 1966. في عام 1967، أعلن فورستر عن استعداده لتقديم المساعدات المالية والتكنولوجية إلى أي دولة أفريقية مستعدة لاستقباله، مؤكدا أن هذه المساعدات ليست مرفقةً بشروط سياسية. كان فورستر مدركا أن الكثير من الدول الأفريقية في حاجة لمساعدات مالية على الرغم من معارضتهم للعنصرية في بلاده. كانت العديد من الدول الأفريقية مربوطةً بجنوب أفريقيا اقتصاديا بسبب العمالة الأفريقية المهاجرة للعمل في مناجمها. ظلت بتسوانا وليسوتو وسوازيلاند على انتقادها المعلن للفصل العنصري، ولكن هذه الدول كانت معتمدةً على مساعدات جنوب أفريقيا الاقتصادية.

كانت مالاوي أول بلدٍ ليس على حدود جنوب أفريقيا قَبــِل بمساعداتها. قام البلدان بتثبيت العلاقات السياسية والاقتصادية بينهما في عام 1967، وكانت مالاوي أول بلد في منظمة الوحدة الأفريقية التي لم توقع على بيان لوساكا الذي انتقد سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. في عام 1970، قام الرئيس المالاوي هاستينجس باندا بأول وأنجح توقف رسمي في جنوب أفريقيا.

اتبعت العلاقات مع موزامبيق نفس النهج، وتمت المحافظة على هذه العلاقات عندما حصلت موزامبيق على استقلالها في 1975. حصلت أنجولا على قروض من جنوب أفريقيا أيضا. وشاركت دولٌ أخرى في علاقات مع جنوب أفريقيا مثل ليبيريا وساحل العاج ومدغشقر وموريشيوس والغابون وزائير (الآن: جمهورية الكونغو الديموقراطية) وغانا وجمهورية أفريقيا الوسطى. فعلى الرغم من انتقاد هذه الدول للفصل العنصري (وزادت الانتقادات بعد رفض جنوب أفريقيا لبيان لوساكا)، ظل تقدم جنوب أفريقيا الاقتصادي والعسكري ليؤكد اعتماد هذه الدول على جنوب أفريقيا بنِسَب ٍمتفاوتة.

منظمة الوحدة الأفريقية:

أنشئت منظمة الوحدة الأفريقية في عام 1963، وكانت أهدافها الرئيسية القضاء على الاستعمار، وتحسين الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في جنوب أفريقيا. انتقدت المنظمة الفصل العنصري، وطالبت بفرض جزاءات على جنوب أفريقيا. وقد وافقت الدول الأفريقية على مساعدة حركات التحرير في كفاحها ضد الفصل العنصري. واجتمعت أربعة عشر دولة من وسط وشرق أفريقيا في مدينة لوساكا في زامبيا ووضعوا بيان لوساكا، الذي تم الذي تم التوقيع عليه في 13 نيسان/ابريل من قبل جميع البلدان الحاضرة باستثناء ملاوي. اتخذت منظمة الوحدة الأفريقية والأمم المتحدة البيان تقريرا للتعامل مع جنوب أفريقيا. لخص بيان لوساكا الأوضاع السياسية في البلدان الأفريقية المستقلة، وأدان العنصرية وعدم المساواة، و دعا إلى حكم الأغلبية السوداء في كل الدول الأفريقية. لم يدن البيان جنوب أفريقيا تماما ولكنه اتخذ موقفا هادئا مع حكومة الفصل العنصري، بل واعترف باستقلالها. فعلى الرغم من تأييد قادة الدول الأفريقية لتحرير الجنوب أفريقيين السود، فقد رغبوا تحقيق ذلك من خلال الوسائل السلمية. فلم يؤيد الموقعون على البيان المعارضة العنيفة لنظام الفصل العنصري، لأنه (من أجل سبب واحد) لن يتحملوا تكاليفها، و(لسبب آخر) خافوا من الانتقام. 

أسفر رد جنوب أفريقيا السلبي على اتفاق لوساكا ورفضها تغيير السياسات العنصرية عن إعلان آخر لمنظمة الوحدة الأفريقية في عام 1971. وأعلن "إعلان مقديشو" أن رفض جنوب أفريقيا للمفاوضات يعني أنه لن يتم تحرير السود إلا بالوسائل العسكرية، وأنه لا ينبغي لأي ٍ من الدول الأفريقية أن تجري محادثاتٍ مع حكومة الفصل العنصري. وأن جنوب أفريقيا هي المسئولة عن إقامة الاتصال مع الدول الأفريقية الأخرى من الآن فصاعدا.

الأمـن القومي:

خلال الثمانينات، أصبح الأمن يشكل هاجسا للحكومة بقيادة بي دبليو بوثا. وأخذا بنصيحة عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتنغتون، قام بوثا بتشكيل جهاز أمن دولةٍ قوي لحماية الدولة من الزيادة المتوقعة للعنف السياسي التي يمكن أن تحدثها الإصلاحات. وقد أصبحت الثمانينات فترة من الاضطرابات السياسية، وذلك مع هيمنة دائرة بوثا من الجنرالات وقادة الشرطة المعروفة باسم (securocrats) والذين أداروا عدة حالات للطوارئ.

واتسمت سنوات بوثا في السلطة بالعديد من عمليات التدخل العسكري في الدول المجاورة لجنوب أفريقيا، كما شملت حملةً عسكرية وسياسية للقضاء على السوابو في ناميبيا. شهد هذا الوقت أيضا إجراءات قوية للشرطة وتنفيذا صارما للتشريعات الأمنية نتج عنها مئات الاعتقالات وعمليات الحظر، ونهايةً حقيقية لحملة المؤتمر الوطني الأفريقي للتخريب.

وعاقبت الحكومة مرتكبي التعديات السياسية بوحشية. بين عامي 1982 و 1983، تعرض 40000 شخص للجلد كشكل من أشكال العقاب. ارتكبت الغالبية العظمى منهم تعدياتٍ سياسية، وتم جلدهم عشرة جلدات. وإذا أدين أحدٌ بتهمة الخيانة، كان ينفذ فيه حكم الإعدام، ونفذت الحكومة حكم الإعدام في العديد من مرتكبي الجرائم السياسية بهذه الطريقة.

في فترة الثمانينات، تم إنشاء المزيد و المزيد من المنظمات المناهضة للفصل العنصري وربطها بالجبهة الديمقراطية. طالبت الجبهة بقيادة القس ألان بويساك وألبيرتينا سيسولو الحكومة أن تستبدل الإصلاحات بإلغاء الفصل العنصري و الأوطان البديلة تماما.

حالـة الطوارئ:

أصبح العنف السياسي سمةً بارزة لجنوب أفريقيا في الفترة من 1985 إلى 1989، حيث أصبحت البلدات السوداء محور الصراع بين المنظمات المناهضة للفصل العنصري وحكومة بوثا. فخلال الثمانينات، قاومت البلدات الفصل العنصري من خلال العمل على القضايا المحلية التي تواجهها المجتمعات على وجه الخصوص. وتم توجيه الكثير من هذه المقاومة ضد السلطات المحلية والقادة المحليين، الذين نُظِرَ إليهم على أنهم داعمون للحكومة. وبحلول عام 1985، أصبح هدف حزب المؤتمر الوطني الأفريقي جعل البلدات السوداء "غير قابلة للحكم" (واستُبدلَ هذا التعبير في وقت لاحق بعبارة "سلطة الشعب") عن طريق مقاطعات الإيجار وغيرها من الإجراءات العسكرية. أدى هذا إلى إطاحة أو انهيار العديد من مجالس البلديات، لتحل محلها المنظمات الشعبية غير الرسمية، والتي حُكِمَت في أغلب الأحيان من قبل النشطاء الشباب. أنشئت محاكم الشعب، وعومل الذين اتهموا بالعمالة لدى الحكومة بإجراءات صارمة وأحيانا قاتلة. وكان يهاجم رجال المجالس البلدية ورجال الشرطة للبلديات السوداء، وأحيانا عائلاتهم، بالقنابل الحارقة، والضرب ، والقتل عن طريق حرق الإطارات ووضعها حول عنق الضحية (necklacing).

في يوم 20 يوليو 1985، أعلن الرئيس بوثا حالة الطوارئ في 36 من الدوائر القضائية. كانت المناطق المتضررة هي الكاب الشرقية، ومنطقة "بريتوريا ويتواترسراند وفيرنيجنج". أدرجت الكاب الغربية بعد ثلاثة أشهر أيضا. حظرت أعدادٌ متزايدةٌ من المنظمات أو قيدت بطريقةٍ ما، وعانى الكثير من الناس من قيودٍ كالإقامة الجبرية. اعتقل 2436 شخص خلال حالة الطوارئ هذه بموجب قانون الأمن الداخلي، حيث أعطى هذا القانون الشرطة والجيش صلاحيات واسعة. فكانت الحكومة تستطيع تنفيذ حظر للتجول يتحكم في حركة الناس. ويستطيع الرئيس أن يحكم بمرسوم دون الرجوع إلى الدستور أو إلى البرلمان. أصبح تهديد شخص شفهيا أو حيازة وثائق تراها الحكومة خطيرةً جريمة جنائية. وأصبح من غير القانوني تقديم المشورة لأحد بالبقاء بعيدا عن العمل أو بمعارضة الحكومة. وكان من غير القانوني أيضا الكشف عن اسم أي شخص يلقى القبض عليه في حالة الطوارئ حتى ترى الحكومة أن إعلان هذا الاسم أمرٌ مناسب. قد يواجه أي شخصٍ مدة تصل إلى عشر سنواتٍ سجن لهذه الجرائم. وأصبح الاحتجاز دون محاكمة سمة مشتركة لردود الحكومة على تزايد الاضطرابات المدنية، وبحلول عام 1988، اعتقل 30000 شخص. واعتقل الآلاف وتعرض كثير منهم للاستجواب والتعذيب.

يوم 12 يونيو 1986، وقبل أربعة أيام من الذكرى السنوية العاشرة لانتفاضة سويتو، مُدِدَت حالة الطوارئ لتشمل البلاد بأكملها. وعدلت الحكومة قانون الأمن العام، ووسعت صلاحياتها لتشمل الحق في إعلان "مناطق اضطرابات"، مما يتيح لها اتخاذ تدابير استثنائية لقمع الاحتجاجات في هذه المناطق. وأصبحت الرقابة الشديدة على الصحافة تكتيكا مهيمنا في إستراتيجية الحكومة، ومنعت كاميرات التلفزيون من دخول هذه المناطق. كانت إذاعة الدولة، هيئة إذاعة جنوب أفريقيا تقدم الدعاية لدعم الحكومة. ولكن زادت معارضة وسائل الإعلام للنظام، بدعم من نمو صحافة (تحت الأرض) المؤيدة لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا.

في عام 1987، مُددت حالة الطوارئ لمدة عامين آخرين. من جهة أخرى، بدأ حوالي 200000 من أعضاء الاتحاد الوطني لعمال المناجم أطول إضراب في تاريخ جنوب أفريقيا لمدة ثلاثة أسابيع. وشهد عام 1988 حظر أنشطة الجبهة الديمقراطية وغيرها من المنظمات المناهضة للفصل العنصري.

وجهت الكثير من أعمال العنف في أواخر الثمانينات والتسعينات إلى الحكومة، ولكن كان هناك قدر كبيرٌ من العنف بين السكان أنفسهم. فقد لقي الكثيرون حتفهم في أعمال عنف بين أعضاء حزب انكاثا وتجمع المؤتمر الوطني الأفريقي مع الجبهة الديمقراطية. ثبت في وقت لاحق أن الحكومة تلاعبت بالوضع من خلال دعم هذا الطرف أو ذاك بحسب ما يناسبها. اغتال عملاء للحكومة المعارضين داخل جنوب أفريقيا وخارجها، وشنوا الهجمات الجوية والعسكرية عبر الحدود على القواعد المشتبهة للمؤتمر الوطني الأفريقي ومؤتمر الوحدويين الأفريقيين. وبالمقابل، قام حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ومؤتمر الوحدويين الأفريقيين بتفجير القنابل في المطاعم والمراكز التجارية والمباني الحكومية مثل محاكم القضاء. استمرت حالة الطوارئ حتى عام 1990، عندما تم رفعها من قبل رئيس الدولة دي كليرك.

السنوات الأخيرة من الفصل العنصري

كان نمو جنوب أفريقيا الاقتصادي في المرتبة الثانية بعد اليابان في الستينات. فكانت التجارة ناميةً مع الدول الغربية، وهرع المستثمرون من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا للحصول على جزء من ذلك. تم القضاء على المقاومة بين السود وسُجـِـنَ مانديلا (زعيم المؤتمر الوطني الأفريقي) منذ عام 1964 في سجنٍ في جزيرة روبن (قبالة ساحل كيب تاون)، وكان الظاهرُ أن قوات الأمن قادرة على التعامل مع أي مقاومة للفصل العنصري. ولكن في السبعينات، بدأت هذه الصورة الوردية في التلاشي.

في عام 1974، زادت مقاومة الفصل العنصري بسبب انسحاب البرتغال من موزامبيق وأنغولا، وبعد الثورة القرنفلية عام 1974. انسحبت قوات جنوب أفريقيا من أنغولا في مطلع عام 1976، حيث فشلوا في منع قوات التحرير من الوصول إلى السلطة هناك، واحتفل الطلاب السود في جنوب أفريقيا بانتصار تحرير السود على المقاومة البيضاء.

في عام 1978، أصبح وزير الدفاع في الحزب الوطني بي دبليو بوثا رئيسا للوزراء. شعر نظام بوثا الأبيض بالقلق بشأن مساعدة الاتحاد السوفيتي للثوار في جنوب أفريقيا، وتحول الاقتصاد إلى الركود. وجدت الحكومة الجديدة أنها تنفق الكثير من المال في محاولة الحفاظ على فصل الأوطان التي أنشئت للسود وثبت أن هذه الأوطان غير اقتصادية.

ولم ينجح إبقاء السود كفئةٍ ثالثة أيضا. لم تزل العمالة السوداء حيوية للاقتصاد، وبدأت النقابات العمالية السوداء غير القانونية. وظل كثير من السود فقراء جدا عن تقديم أي مساهمةٍ في الاقتصاد من خلال قدرتهم الشرائية، -وإن كانوا أكثر من 70 في المئة من السكان. فالرأسمالية تعمل على حسن النية، وكان نظام بوثا معنيا أكثر بحسن النية- وليس لصالح الرأسمالية بقدر ما كان النظام يخشى لزوم الترياق المضاد لمنع السود من الانجذاب للشيوعية.

اكتسبت الحركات المناهضة للفصل العنصري في الولايات المتحدة وأوروبا دعما لمقاطعة جنوب أفريقيا، ولانسحاب شركات الولايات المتحدة من جنوب أفريقيا ودعما من اجل الإفراج عن مانديلا. أصبحت جنوب إفريقيا خارجة عن القانون في مجتمع الأمم. شارف الاستثمار في جنوب أفريقيا من قبل الأمريكيين وغيرهم على الانتهاء وبدأت سياسة نشطة لسحب الاستثمارات من هناك.

البرلمان ثلاثي المجالس:

في أوائل الثمانينات بدأت حكومة بوثا تعرف ضرورة إجراء الإصلاحات لنظام الفصل العنصري. كانت الإصلاحات قبل ذلك نتيجة للعنف الداخلي والإدانة الدولية والتغييرات الانتمائية داخل الحزب الوطني، و تغير التركيبة السكانية كان البيض يشكلون 16 ٪ فقط من مجموع السكان، بالمقارنة مع 20 % من خمسين عاما مضت.

في عام 1983، تمت الموافقة على دستور جديد يطبق ما سمي بالبرلمان ثلاثي المجالس (Tricameral Parliament) والذي أعطى الملونين والهنود الحقوق الانتخابية والتمثيل النيابي في مجالس منفصلة: المجلس التشريعي المخصص للبيض (178 عضوا)، والمجلس التمثيلي المخصص للملونين     (85 عضوا)، ومجلس المفوضين الخاص بالأقلية الآسيوية (45 عضوا). تعامل كل مجلس مع القوانين المتعلقة بقضايا العرق الخاص به، بما في ذلك الصحة والتعليم وغيرها من قضايا المجتمع. تولى مجلس يضم ممثلين عن كل مجلس من الثلاثة جميع القوانين المتعلقة ب "الشؤون العامة" (مسائل مثل الدفاع ، والصناعة، والضرائب)، وملك الحزب الحاكم في المجلس المجمع ميزة عددية. واستبعد السود الذين تتألف منهم غالبية السكان من التمثيل، وظلوا مواطنين في أوطانهم البديلة. قاطع معظم الملونون والهنود أول انتخاباتٍ للبرلمان الثلاثي، وسط أعمال شغب واسعة النطاق.

الإصلاحات والاتصال مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي تحت حكم بوتا:

كان الرئيس بوثا قلقا إزاء شعبية مانديلا ووصفه بأنه ماركسيٌ لدود ملتزمٌ بالثورة العنيفة. ولكن الحكومة نقلت مانديلا من سجن جزيرة روبن إلى سجن بولزمور، وهو سجنٌ ألطف في منطقةٍ ريفيةٍ خارج كيب تاون، وذلك لاسترضاء السود ولرعاية مانديلا كزعيم لهم. وسمحت الحكومة لمانديلا بالمزيد من الزوار، بما في ذلك الزيارات والمقابلات من قبل الأجانب، لإطلاع العالم أن مانديلا يلقى معاملة حسنة.

أعلنت الأوطان السوداء دولا قومية، وألغيت قوانين الاجتياز، وأعطيت نقابات العمال السود الشرعية، واعترفت الحكومة بحق السود في العيش في المناطق الحضرية بصورة دائمة وأُعطى السود حقوق الملكية هناك. وأعرب النظام عن الاهتمام بإلغاء قانون مكافحة الزواج بين الأعراق وكذلك إلغاء قانون مكافحة الجنس بين الأعراق، والذي هو محط سخرية في الخارج. وزاد الإنفاق على مدارس السود، فأصبح ينفق على الطفل الأسود سُبع الإنفاق على الطفل الأبيض! بعدما كان واحدا لستة عشر في عام 1968. وفي الوقت نفسه، تم إعطاءُ اهتمام كبير لتعزيز فعالية جهاز الشرطة.

في كانون الثاني/ يناير1985، وجه بوثا رسالةً إلى المجلس النيابي، وذكر أن الحكومة مستعدة لإطلاق سراح مانديلا، بشرط أن يتعهد مانديلا مقاومة أعمال العنف لتحقيق الأهداف السياسية. قرأ أحد حلفاء مانديلا رده الذي كان أول كلمةٍ منقولة عنه بعد 21 عاما في السجن. قال مانديلا أن العنف هو مسؤولية نظام الفصل العنصري، وقال إنه بالديمقراطية لن تكون هناك حاجة للعنف. انفجرت الحشود المستمعة إلى قراءة خطابه في التصفيق والهتافات. ساعد هذا الرد على رفع مكانة مانديلا في نظر الذين يعارضون الفصل العنصري، على الصعيدين الدولي والمحلي.

بين عامي 1986 و 1988، ألغيت بعض قوانين الفصل العنصري البسيط. وقال بوتا أنه يجب على البيض في جنوب أفريقيا "التكيف أو الموت"، وتردد مرتان على أعتاب ما وُصِفَ بأنها إعلانات "جريئة" عن إصلاحات كبيرة، على الرغم من انه في كلتا الحالتين تراجع عن تقديم تغييرات جوهرية. ومن المفارقات أن هذه الإصلاحات أدت إلى تكثيف العنف السياسي خلال الفترة المتبقية من فترة الثمانينات حيث انضمت المزيد من الطوائف والمجموعات السياسية في جميع أنحاء البلاد إلى حركة المقاومة. توقفت حكومة بوتا عن حدٍ كبير من الإصلاحات، مثل رفع الحظر عن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ومنظمة الوحدويين الأفريقيين والحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا وغيرها من المنظمات، والإفراج عن السجناء السياسيين، أو إلغاء أساس قوانين الفصل العنصري الكبير. كان موقف الحكومة هو أنها لن تفكر في التفاوض حتى تتخلى هذه المنظمات "عن العنف".

بحلول عام 1987، انخفض معدل النمو الاقتصادي في جنوب أفريقيا إلى أدنى معدل في العالم، وأحبط الحظر المفروض على مشاركة جنوب أفريقيا في المناسبات الرياضية الدولية الكثير من البيض في جنوب أفريقيا. وكانت هناك أمثلةٌ لدول أفريقية بزعماء من السود وأقليات بيضاء في كينيا وزيمبابوي. وانتقلت همسات أن جنوب أفريقيا سيكون لها رئيس أسود في أحد الأيام، مما أدى بالكثير من البيض المتشددين للانضمام إلى أحزاب يمينية. تم نقل مانديلا إلى بيت بأربعة غرف نوم، مع حمام سباحة ومظللا بأشجار التنوب، على سجن مزرعةٍ خارج كيب تاون. التقى ببوثا بطريقةٍ غير معلنة، وتعجب مانديلا عندما تقدم بوثا ليسكب الشاي لمانديلا. دارت بين الاثنين مناقشةٌ ودية، وقارن مانديلا بين تمرد المؤتمر الوطني الأفريقي وتمرد الافريكانية، وتحدث عن أخوة الجميع. وأقيم عدد من الاجتماعات السرية بين أعضاء للمؤتمر الوطني الأفريقي في المنفى، وقطاعات مختلفة من أعضاء الصراع الداخلي، مثل النساء والتربويين. كما قابل العديد من المثقفين البيض أعضاء من المؤتمر الوطني الأفريقي في السنغال لإجراء محادثاتٍ أكثر علانية.

رئاسة إف. دبليو. دي كليرك:

في أوائل عام 1989 أصيب بوتا بجلطة، وطلب منه الاستقالة في 13 فبراير 1989. وعقبه في الرئاسة لاحقا ذلك العام إف. دبليو. دي كليرك. على الرغم من سمعته الأولية كمحافظ، تحرك دي كليرك بحسم نحو اجراء مفاوضات لإنهاء الجمود السياسي في البلاد. في كلمته الافتتاحية للبرلمان يوم 2 فبراير 1990، أعلن دي كليرك انه سوف يلغي القوانين التمييزية وسيرفع الحظر الفروض قبل 30 عاما على قيادة المجموعات المناهضة للفصل العنصري، مثل المؤتمر الوطني الأفريقي وحزب مؤتمر عموم أفريقيا والحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا والجبهة الديمقراطية. تم وضع حدٍ لقانون الأراضي. كما قام دي كليرك باول التزام عام للإفراج عن زعيم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي المعتقل نيلسون مانديلا، والعودة إلى حرية الصحافة وتعليق عقوبة الإعدام. رفعت القيود عن وسائل الإعلام وتم إطلاق سراح السجناء السياسيين الذين لم يرتكبوا جرائم عامة. و في يوم 11 فبراير 1990، أطلق سراح نيلسون مانديلا من سجن فيكتور فيرستر بعد أكثر من 27 عاما في السجن.

وبعد تعليمات من مجلس الأمن الدولي على إنهاء احتلالها العسكري الطويل لجنوب غرب أفريقيا/ناميبيا، وبسبب الهزائم العسكرية من قبل المتمردين الكوبيين والأنغوليين، و تزايد تكاليف الحرب من الاحتلال هناك، كان على جنوب أفريقيا التخلي عن السيطرة على هذه الأرض، وأصبحت ناميبيا دولة مستقلة رسميا في 21 مارس 1990.

المفاوضـات:

تم تفكيك نظام الفصل العنصري في سلسلةٍ من المفاوضات في الفترة بين 1990 إلى 1993، وبلغت ذروة المفاوضات في الانتخابات التي جرت في عام 1994، والتي كانت الانتخابات الأولى في جنوب إفريقيا التي سمحت بحق الاقتراع العام.

وألغي الجهاز القانوني للفصل العنصري في الفترة بين 1990 إلى 1996. بدأت المفاوضات بجدية في عام 1990، وحيث عقد اجتماعان بين الحكومة و حزب المؤتمر الوطني الأفريقي. وكان الغرض من هذه المفاوضات تمهيد الطريق لإجراء محادثات من أجل انتقال سلمي للسلطة. كانت هذه الاجتماعات ناجحة في وضع الشروط المسبقة للمفاوضات، على الرغم من وجود توتر كبير داخل البلد. في الجلسة الأولى، ناقش الحزب الوطني وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي شروط بدء المفاوضات. وقد عقد الاجتماع في غروت شور، وهو المقر الرسمي للرئيس. صدر تقرير لحظي من غروت شور قال أن المفاوضات السياسية ستبدأ بعد الإفراج عن السجناء والسماح لجميع المبعدين بالعودة.

كانت هناك مخاوف من أن تغيير السلطة في جنوب أفريقيا سيكون عنيفا. و لتفادي هذا، كان من الضروري التوصل إلى حل سلمي بين جميع الأطراف. في كانون الأول/ديسمبر1991، بدأ التجمع من أجل جنوب أفريقيا ديمقراطية (كوديسا) المفاوضات حول تشكيل حكومة انتقالية متعددة الأعراق ووضع دستور جديد لتوسيع نطاق الحقوق السياسية لجميع الفئات. اعتمدت كوديسا "إعلانا للنوايا" والالتزام بـ"جنوب إفريقيا غير مقسمة".

أدت الإصلاحات والمفاوضات لوضع حد لنظام الفصل العنصري إلى رد فعل عنيف بين المعارضة البيضاء اليمينية، مما أدى إلى فوز حزب المحافظين الفوز بعدد من الانتخابات ضد الحزب الوطني. رد دي كليرك بدعوةٍ لاستفتاءٍ بين البيض فقط في آذار/مارس 1992، لتحديد ما إذا كان ينبغي أن تستمر المفاوضات. أعطت أغلبية تقدر ب 68 في المئة من الناخبين البيض دعمها لدي كليرك، ورسخ هذا المزيد من الثقة عند دي كليرك والحكومة، وزادت من قوة موقفهم في المفاوضات.

وهكذا عندما استؤنفت المفاوضات في أيار/مايو 1992، تحت اسم مؤتمر "كوديسا الثاني"، تم التقدم بمطالب أقوى. لم يتمكن المؤتمر الوطني الأفريقي والحكومة من التوصل إلى حل وسط بشأن الكيفية التي ينبغي تقاسم السلطة بها خلال مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية. فقد أراد الحزب الوطني الإبقاء على موقفٍ قوي في الحكومة الانتقالية، فضلا عن القدرة على تغيير القرارات التي يتخذها البرلمان.

أدى استمرار العنف إلى زيادة التوترات أثناء المفاوضات. كان العنف بسبب نفاد الصبر من أجل التغيير عند الذين ما زالوا يعيشون تحت القمع، وكذلك شدة المنافسة بين حزب انكاثا للحرية (انكاثا) وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي. وعلى الرغم من لقاء بوتوليزي ومانديلا لتسوية خلافاتهما، إلى أنهما لم يستطيعا إيقاف العنف. وكانت واحدة من أسوأ حالات العنف بين أنكاثاو حزب المؤتمر الوطني الأفريقي هي مجزرة بويباتونج في 17 يونيو 1992، عندما هاجم مائتي مسلح من انكاثا بلدة بويباتونج في جاوتينج، مما أسفر عن مقتل 45 شخصا. وقال شهود العيان أن رجالا وصلوا في سيارات للشرطة، مما دعم الاتهامات التي قالت أن عناصر الشرطة والجيش ساهمت في أعمال العنف الجارية. عندما حاول دي كليرك زيارة موقع الحادث، طاردته الحشود الغاضبة، وفتحت الشرطة النار عليهم مما أسفر عن مقتل ثلاثة. قال مانديلا أن دي كليرك، كرئيس للدولة هو مسئول عن وضع حدٍ لإراقة الدماء. كما اتهم شرطة جنوب أفريقيا بالتحريض على العنف بين المؤتمر الوطني الأفريقي وبين حزب انكاثا للحرية. شكل هذا أساس انسحاب حزب المؤتمر الوطني الأفريقي من المفاوضات، وانهار منتدى كوديسا تماما في هذه المرحلة.

و أدت مذبحة بيشو في يوم 7 سبتمبر 1992 إلى رفع حدة التوتر. قتلت قوة دفاع سيسكاي 29 شخصا وأصابت 200 آخرين عندما فتحت النار على مسيرة للمؤتمر الوطني الأفريقي تطالب إعادة دمج سيسكاي إلى جنوب أفريقيا. وفي أعقاب ذلك، وافق دي كليرك ومانديلا على الاجتماع لإيجاد سبل لانهاء العنف المتصاعد. وأدى ذلك إلى استئناف المفاوضات.

أضاف العنف اليميني إلى القتال في هذه الفترة. فقد هدد اغتيال كريس هاني يوم 10 أبريل 1993 باغراق البلاد في الفوضى. كان هاني الامين العام للحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا، و كانت له شعبية بالغة. تم اغتياله في عام 1993 في حديقة "دونبارك" في جوهانسبورغ من قبل جاناس والاس و هو لاجيء بولندي مضاد للشيوعية كان على صلةٍ وثيقةٍ بالمنظمة الأفريكانية القومية "ويرستاندبيويجنج". كان هاني يتمتع بتأييدٍ واسع النطاق يتجاوز دائرته الانتخابية في الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا و حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، و كان يُنظر إليه كخليفةٍ محتمل لمانديلا؛ أدت وفاته إلى مظاهراتٍ في جميع أنحاء البلاد وعبر المجتمع الدولي، مما أثبت في النهاية أنها نقطةُ تحول ٍ دفعت الأطراف الرئيسية بعزم للتوصل إلى تسوية. وفي 25 يونيو 1993، استخدمت "ويرستاند بيويجنج" عربةً مدرعةً لتحطم أبواب مركز التجارة العالمي، حيث كانت المحادثات جارية في إطار المجلس التفاوضي. فشل هذا أيضا في تعطيل التفاوض.

بالإضافة إلى استمرار العنف بين السود، كان هناك عدد من الهجمات على المدنيين البيض من قبل الجناح العسكري لمؤتمر الوحدويين الأفريقيين - جيش تحرير الشعب الآزيني (APLA). كان أمل مؤتمر الوحدويين الأفريقيين تعزيز مكانتهم من خلال جذب دعم الشباب الغاضب. وفي مذبحة كنيسة سانت جيمس يوم 25 يوليو 1993، فتح أعضاء من APLA النار في كنيسة في كيب تاون، مما أسفر عن مقتل 11 فردا من المصلين وإصابة 58.

في عام 1993، تم منحُ دي كليرك ومانديلا معا جائزة نوبل للسلام "لعملهم من أجل السلام وإنهاء نظام الفصل العنصري، ومن أجل وضع الأسس لنظام ديمقراطي جديد في جنوب أفريقيا".

تواصلت أعمال العنف حتى انتخابات عام 1994. أعلن لوكاس منغوبه زعيم وطن بوفوثاتسوانا الأصلي، أنه لن يشارك في الانتخابات. فقد تقرر أنه بعد أن يدخل الدستور المؤقت حيز التنفيذ، فإن الأوطان ستدرج في جنوب إفريقيا، ولكن مانغوبي لم يرد حدوث ذلك. كانت هناك احتجاجات قوية ضد قراره ، مما أدى إلى وقوع انقلاب في بوفوثاتسوانا في 10 آذار/مارس خلع منغوبه، على الرغم من تدخل اليمينيين البيض آملين للحفاظ عليه في السلطة. قتل ثلاثة مسلحين بيض خلال هذا التدخل، وعرضت الصور المروعة في التلفزيون الوطني وفي الصحف في جميع أنحاء العالم.

قبل يومين من الانتخابات، انفجرت سيارة ملغومة في جوهانسبرغ، مما أسفر عن مقتل تسعة. وقبل يوم من الانتخابات، انفجرت سيارةٌ أخرى، مما أسفر عن إصابة ثلاثة عشر. وأخيرا، ورغم ذلك، في منتصف ليلة 26-27 نيسان/ابريل 1994، تم إنزال العلم القديم، وبدأ غناء النشيد الوطني الجديد ("ليبارك الله أفريقيا").، ثم رفع علم قوس قزح الجديد.

انتخابات عام 1994م:

أجريت الانتخابات في 27 أبريل 1994، وسارت بسلام في جميع أنحاء البلاد بينما أدلى 20 مليون جنوب أفريقي بأصواتهم. كان هناك بعض الصعوبات في تنظيم عملية التصويت في المناطق الريفية، ولكن الناس انتظروا في جميع أنحاء البلد بصبر لعدة ساعات من أجل التصويت، وسط شعور واضح بحسن النية. وأعطي يوم إضافي لإعطاء الفرصة للجميع. واتفق المراقبون الدوليون أن الانتخابات كانت حرة ونزيهة.

حصل المؤتمر الوطني الأفريقي على 62.65 ٪ من الأصوات، وهي نسبةٌ أقل من 66.7 ٪ التي من شأنها السماح بإعادة كتابة الدستور. وفي البرلمان الجديد، ذهبت 252 من 400 مقعد لأعضاء المؤتمر الوطني الأفريقي. حصل الحزب الوطني على أغلب أصوات البيض والملونين، وأصبح حزب المعارضة الرسمي. قررت هذه الانتخابات الحكومة الوطنية كما قررت حكومات المقاطعات، وفاز المؤتمر الوطني الأفريقي بسبعة مقاطعاتٍ من التسعة، وفاز الحزب الوطني في الكاب الغربية، وحزب انكاثا للحرية في كوازولو ناتال. وفي يوم 10 مايو 1994، أدى مانديلا اليمين الدستورية كرئيس لجنوب أفريقيا. أنشئت حكومة الوحدة الوطنية، وتألفت من اثني عشر من ممثلي حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ، وستة من الحزب الوطني، وثلاثة من حزب انكاثا للحرية. وعين ثابو مبيكي وفريديريك ويليم دي كليرك نائبين للرئيس. الذكرى السنوية للانتخابات هي في 27 نيسان/أبريل، ويحتفل بها باعتبارها يوم عطلة رسمية في جنوب أفريقيا معروفةٌ باسم يوم الحرية.


الباب الثالث: القضية الفلسطينية والصراع في جنوب أفريقيا"

أولا: أوجه الشبه بين معاناة الشعبين:

أدت التجربة الاستيطانية التي قام بها الإسرائيليون في فلسطين إلى تطوير فلسفة عنصرية خطيرة مماثلة للآبارتهايد والمعروفة بالفلسفة الصهيونية، فكلا النظامين قاما على نفس المقولات الزائفة التاريخية والعرقية والدينية، وعلى نفس الروح المتعالية، لكن هذه المزاعم لم يكن لديها ما تفعله إزاء التاريخ الفعلي لفلسطين وجنوب أفريقيا على السواء.  وهنا يمكن إدراج أهم محاور التشابه بين النظامين:

  • الديمقراطية الناقصة والامتداد الغربي وشبه الاستقلال:

كلا النظامين العنصريين يحملان نفس الخصائص الديمقراطية، فهي ديمقراطية محصورة حسب العرق أو الدين، ولا تضمن في أحشائها ولا تتسع لتشمل العناصر الأخرى المكونة " للمجتمع" والتي أبقيت خارج النظام وخارج القيم الديمقراطية، بل مورس بحق الفئات العرقية والدينية الأخرى حرمان قاسي لحقوقهم الديمقراطية والاجتماعية والسياسية والمدنية والإنسانية، فهي "ديمقراطية عرقية" على اعتبار أن الدولتين أعلنتا عن نفسيهما كدولة يهودية-أو بيضاء وهذا يتفق مع الأساس الذي قيمت عليه هذه الدول، لتكون "بيتا قوميا" للشعب اليهودي أو وطنا للبيض، وبالتالي التأسيس منذ البداية يفترض أن لا تمنح المساواة التامة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع مواطني الدولتين، وتمتع النظام الاستيطاني الاستعماري بنظرة فوقية للمحيط الذي أوجد نفسه فيه عنوة، وينظر كل من إسرائيل ونظام الآبارتهايد لوجودهما كامتداد للثقافة والحضارة والقيم الغربية، واعتبارات البعد الجغرافي تم تضييقها وتهميشها إلى أبعد الحدود، فدولة جنوب أفريقيا بدأت كفضاء استيطاني ذو ارتباطات بالدول الاستعمارية الغربية وتحديدا هولندا وإنجلترا، توفر وتخدم أبعاد اقتصادية وعسكرية وإستراتيجية وأسواق وعمالة رخيصة، نفس الأمر فيما يتعلق بإسرائيل التي نظر لها دائما كقاعدة استيطانية ذات ارتباطات بالمصالح الغربية (البريطانية والأمريكية) التي أوجدتها.

  • شعور الضحية والمبررات الدينية والدعاية الإعلانية:

تنطلق الحركة الصهيونية كما هو الحال لدى مجتمع الأفريكانرز( المستوطنين الهولنديين) من شعور مزيف بكونهما ضحية وليستا قوة استعمارية، فاليهود دائما ما نظروا لأنفسهم كضحايا للأوروبية المعادية للسامية وما نتج عنها من ويلات حلت عليهم وخصوصا على يد النازية، نفس الشيء فالمستوطنين الأفريكانرز نظروا لأنفسهم كضحايا لشركة الهند الشرقية الهولندية أولا ثم كضحايا للإمبريالية البريطانية ثانيا، ولكن مهما صيغ من مبررات أخلاقية تبقى الحقيقة الأكثر وضوحا من أن كلا الإسرائيليين والأفريكانرز جاءوا لتمثيل قوى القمع والسيطرة على أساس العنف المادي والتفرقة العنصرية، وقد برر كل من المستوطنين اليهود والبيض في فلسطين وجنوب أفريقيا، احتلالهما للأراضي التي كانت تعود ملكيتها للفلسطينيين والسود الجنوب أفريقيين بدافع ديني فكلاهما يرى بأن هناك أمرا أو وعدا إلهيا اسند لهما، فالله على حد ادعائهم هو الذي أعطاهم هذا الحق، ومن هنا كان للكنيسة الدور البارز في تشجيع الاستيطان في جنوب إفريقيا بدعوى أن هؤلاء قوم ضلوا عن تعاليم المسيح ويجب هدايتهم والأخذ بيدهم، كذلك فإن اليهود اعتبروا أن الله قد منحهم أرض فلسطين بوعد الهي لشعب الله المختار، حتى يتحقق الحلم النبوئي اليهودي في الخلاص والعودة الى " أرض إسرائيل " والتي ستحقق لهم الخير والعدل والأمان، وقد استخدم اليهود الأسطورة والدين كأدوات طيعة لتبرير عملية الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، ورغم أن أعداد هائلة من السكان الأصليين في جنوب أفريقيا قد اعتنقوا المسيحية إلا أنهم كانوا أيضا يخضعون لتمييز عنصري داخل التراتبية الكنسية ذاتها، إضافة للعنصرية التي كانت تمارس عليهم من قبل المؤسسات الحكومية الرسمية، فقد منع السود من اعتلاء نفس مناصب البيض في الكنيسة ولم يمنحوا نفس الرواتب، والكنيسة الهولنديّة نظرت للإفريقيين كأعضاء غير كاملين فيها.

أما بخصوص الدعاية فلم تنفك الدعاية الإسرائيلية منذ العام 1948 من ترديد شعار بأن العرب والفلسطينيين يريدون إلقاء اليهود في البحر، ودائما يكررون هذا الشعار لكسب مزيد من التأييد والتعاطف معهم، ولكن الملفت للانتباه أن هذا الشعار ذاته قد استخدم من قبل المستوطن الأبيض في جنوب أفريقيا لتبرير عنصريته ورفضه للمطلب الوحيد للسكان الأصليين والمتمثل بالمساواة، فهم كان يدعون أن المساواة تعني سيطرة السود وبالتالي انتقال القوة ليدهم وهم بدورهم سيلقون البيض في البحر، ولكن جاءت مواقف حركة المقاومة في جنوب أفريقيا منذ بداياتها لتؤكد " إننا نقول بأن بلادنا تكفي لجميع سكانها من سود وبيض، الذين يعيشون فوقها، سنكون عنصريين لو أننا أردنا إلقاء البيض بالبحر، لذلك فإننا نقول:دعونا نعيش معاً كمتساوين ونكون أمة قوية واحدة "(ميثاق الحرية1955)، كذلك روج المستوطن الأبيض والصهيوني أفكار مسبقة وغير حقيقية عن السكان الأصليين السود والفلسطينيين من أنهم بلا تاريخ وأرضي بلا شعوب، على اعتبار انهم مجتمعات راكدة وبدائية - حسب ادعائهم - وأنهم كسالى، وأرضهم مهجورة وعذراء بلا تاريخ، وغير مأهولة بالبشر ولا يعرفون الزراعة بل هم عبارة عن قبائل هائمة على وجهها تمارس الصيد والقتل الدائم فيما بينها، ولا يعتنوا بأنفسهم، والنظر لهم كمجتمعات راكدة بدون أي حراك على المستوى التاريخي، وكلا التجربتين العنصريتين نظرتا للسكان الأصليين الفلسطينيين والسود بنظرة استعلائية وكأن هذه الشعوب ليست موجودة وليس لها أي رصيد حضاري، وليست موجودة إلا فيما يتعلق بخدمة مصالح المستوطن اليهودي و الأبيض.

  • تراتبية حسب العرق أو الدين :

فقد أوجد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا تراتبية صارمة تجعل البيض في أعلى السلم الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي يليها الهنود فالملونين ويأتي السود في أدنى السلم، ودعم ذلك بسلسلة من القوانين التي تحدد شكل العلاقة بين السود والبيض على أساس عبد-سيد، والأمر جد مشابه هنا في فلسطين فقد أقامت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة شكلا من العلاقة مع الفلسطينيين لا يبتعد كثيرا عن جنوب أفريقيا رغم بعض الخصوصيات من حيث الشكل في تجربتها العنصرية، والمتمثلة في إعادة توطين اليهود من مختلف أنحاء العالم وحسب الرواية الإسرائيلية وينبغي أن يطرد من الأرض الفلسطينية غير اليهود. والتعامل مع العرب في مناطق 1948 كمواطنين درجة ثانية وثالثة ولا ينكر أرباب السلطة في "إسرائيل" وجود هذا التمييز، وتم التوضيح في بطاقات الهوية الديانة كأساس للتميز (مسلمين، مسيحيين، دروز، بدو، شركس..)، وأيضا فإن الفلسطينيين الذين يعيشون في مناطق 1967 لم يعتبروا مواطنين بل هم تحت الاحتلال، وخضعوا إلى أقصى أشكال التمييز والتنكيل والاضطهاد فمقولة يهودي أو أبيض كمقولات عنصرية عرقية ودينية أعطيت أبعادا قانونية تمنح صاحبها حقوقاً لا يمكن أن تمنح لغير اليهودي أو غير الأبيض (المسلم أو المسيحي أو الدرزي أو السامري، كالهندي الملون والأسود).

  • استخدام العنف المسلح:

لقد استخدم كلا النظامان العنصريان القوة المفرطة لإرغام السكان الأصليين على ترك أرضهم، فضلا عن تطبيق سياساتهم العنصرية، نتج عنه عمليات قتل وتعذيب واعتقال واسعة، إلا أنها كانت في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بشكل أكثر شراسة ودموية، وجرت خلاله عدد من الحروب.

  • تهجير السكان الأصليين والسيطرة على الأرض :

لا حدود نهائية واضحة للجغرافيا في كلا الروايتين الاستيطانيتين الصهيونية والبيضاء، وهذا واضح في كلا التجربتين حيث توسعت الجغرافيا تدريجيا خدمة لمصالحهما الاقتصادية والإستراتيجية والعسكرية، فالصهيونية تقوم على التوسع، وقد تم تأويل نصوص مقدسة لتتفق وتطلعاتهم نحو التوسع، وعمليا خاض كلا النظامين معارك شرسة من أجل تهجير السكان الأصليين والسيطرة على الأراضي والمياه وكانت عملية تجريد السود والفلسطينيين من معظم أراضيهم وممتلكاتهم عملية مستمرة بدون هوادة، وأتبعت عملية التهجير بسيطرة على الأرض ومحاولات لطمس معالمها الأصلية، ولتأكيد السيطرة على الأرض قاموا بعملية ضخمة لتغريب وتهويد الأرض، وتواصلت هذه السياسة بالسيطرة على الكثير من الأراضي عبر سياسة المصادرة والتزوير في عمليات بيع الأراضي.

وفلسطينيا تولد عن ذلك حركة استيطانية داخل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وفي الفترة الأخيرة جرت عملية المصادرة على نحو محموم بدعوى إقامة جدار الفصل العنصري الأمر الذي حرم أكثر من 750ألف فلسطيني سكان القرى الفلسطينية من الأرض التي هي وسيلة إنتاجهم الوحيدة وليتم تحويلهم إلى فلاحين بدون فلاحة على حد تعبير بيار بورديو، تماما كما شاهدنا ذلك في جنوب أفريقيا والذين عرفوا باسم فاقدي الأرض.

  • المعزل أو البانتوستان:

أقام كلا النظامين مناطق لا يحق للسود والفلسطينيين الإقامة والسكن فيها، فمثلا من الاستحالة أن تجد في كلا المستوطنتين الصهيونية أو البيضاء سابقا أي وجود لساكنين سود أو فلسطينيين، واقتصر وجودهما على العمل كأجراء وأزهد الأجور فقط، وظهرت بجلاء المعازل التي حددت للسود للإقامة بها وعدم مغادرتها فبين عامي 1846 و 1864 أقيمت ثماني مناطق لا يحق للسود الإقامة خارجها، لتضم نحو 40% من السود يقيمون في هذه المعازل، وفي فلسطين حددت الأماكن العربية والقرى كأماكن سكن للفلسطينيين، وأيضا وبنفس الاتجاه لا يمكن النظر للمخيمات التي أقيمت للاجئين بعيدا عن كونها معازل ولكن تحت تسمية مختلفة تحمل نفس المضامين، إضافة إلى المعازل الجديدة التي بدأت تقام بفعل جدار الفصل العنصري والذي هو استمرارا وتقليدا متطورا لمسألة المعازل و البانتوستانات التي أقامها الأبيض للسكان الأصليين في جنوب أفريقيا، فهذا الجدار يهدف لالتهام أراضي الدولة الفلسطينية ونهب مياهها وقطع التواصل بين أجزائها وخلق معازل ممسوخة، وضمان السيطرة المطلقة من قبل الصهيوني-العنصري، ومن خلال الجدار سيتم التهام مساحات شاسعة من الأراضي (ما يقارب 58% من مساحة الضفة الغربية)التابعة لمدن جنين وقلقيلية وطولكرم ورام الله والقدس وبيت لحم والخليل وأريحا والأغوار، بحيث يحصر الفلسطينيين على 12% من مساحة فلسطين التاريخية تماما كما حدث في جنوب أفريقيا عندما تم حصر السود على مساحة 13% من أراضي جنوب أفريقيا، وهذا الجدار يفصل أعداد كبيرة من الفلسطينيين عن أراضيهم التي هي وسيلة إنتاجهم الوحيدة، تمهيد لمصادرتها ويمنع التواصل ما بين المدن والقرى والمخيمات فيما بينها ويحول أي كيان سياسي فلسطيني مستقبلي إلى بانتوستان بدون قدرة على الحياة تغلق إسرائيل بواباته متى شاءت.

  • هاجس الديمغرافيا لقمع الآخر وإقصائه:

عمدت إسرائيل وحكومة الابرتهايد إلى التعامل بقلق كبير مع مسألة الديمغرافيا، فكلاهما نظر للمسألة الديمغرافية كرعب يهدد وجوده باستمرار، وكلاهما اعتمد على تشجيع الهجرة من الخارج كمحاولة يائسة من أجل إحداث التوازن الديمغرافي، وأعادوا تشجيع أهمية الخصوبة والتوالد، والنظر للآخر الأفريقي والفلسطيني بما يملكانه من تعداد سكاني كبير وخصوبة عالية على إنهما خطر لا بد من إزالته، بالترحيل أو القتل، ولا زلنا نسمع مقولات بمنتهى العنصرية ترد على لسان غالبية قيادات العمل السياسي في إسرائيل من أن الخطر الحقيقي يكمن في رحم المرأة الفلسطينية، وان معدلات خصوبتها المرتفعة هي الوسيلة التي ستقضي على وجود دولة إسرائيل باعتبار أنهم يرون في إسرائيل دولة يهودية خالصة-نقية، خالية من باقي الأديان والأعراق والأجناس، في حين أن حكومة جنوب أفريقيا العنصرية أقرت في نهاية المطاف بأنه لا مجال لوجود دولة للبيض وسط أكثرية أفريقية سوداء، إلا أن إسرائيل لا زالت تعيش هذا الهاجس وتركز جل جهدها حول كيفية تجاوز "القنبلة الديمغرافية الفلسطينية الموقوتة"، وهنا تأتي عديد المؤتمرات الصهيونية التي تعقد في إسرائيل، وكان أخرها مؤتمر هرتسيليا، والذي أكد فيه بنيامين نتنياهو بأن الخطر الحقيقي على إسرائيل يأتي من الفلسطينيين الذين يعيشون داخل الدولة الإسرائيلية، وأيضا فان المعطيات الإحصائية التي نشرتها دائرة الإحصاء الفلسطينية مع نهاية العام 2003 أثارت العديد من التخوفات الإسرائيلية فهذه البيانات توضح أن 4.7 مليون فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة وإسرائيل، إضافة إلى نصف مليون من الدروز والمسيحيين والعمال الأجانب، الأمر الذي يقلص الغالبية اليهودية إلى 51%، وبعد عشر سنوات سيصبح اليهود أقلية بين النهر والبحر وأن إسرائيل "تسير في طريق الخراب" كما يقول البروفيسور أرنون سوفير، الخبير الجغرافي والديمغرافي، على اعتبار أن اليهود 5.4 مليون نسمة، مقارنة بالعرب -غير اليهود الذين بلغوا 5.2 مليون نسمة مع حلول العام 2004 منهم 2.3 مليون فلسطيني في الضفة الغربية والقدس الشرقية، و 1.4 مليون نسمة في قطاع غزة.

  • عنصرية القوانين :

كلا النظامين أوجدا أعداد كبيرة من القوانين العنصرية التي تحكم العلاقة مع الآخر سواء كان فلسطيني أو أسود كقوانين السكن التي تدعم عملية الفصل لعنصري حسب اللون أو الدين، وقوانين تسجيل السكان والمحددة تماما بلون البشرة والدين، وكذلك قوانين الحركة والتنقل والتي تمنع الاختلاط والتنقل من منطقة لأخرى إلا عبر الحصول على تصاريح وبطاقات مرور، وقوانين العمل والوظائف والتي تحرم الفلسطينيين والسود من المناصب والامتيازات التي يتحصل عليها الأبيض أو اليهودي، وقوانين التعليم التي تحاول جاهدة طمس الحضارة والثقافة الأصلية والتركيز على محاور من شأنها خلق حالة تشرذم داخل مجتمع السكان الأصليين، إضافة إلى قوانين مصادرة الأراضي، وقوانين الهجرة والمواطنة والجنسية والإقامة والتي كلها تصب في خدمة اليهودي والأبيض وتقصي وتستثني وتضع العراقيل أمام الفلسطيني والأسود، وغيرها من قوانين الزواج ومنعه بين الأديان والألوان المختلفة، وقوانين أملاك الغائبين وقوانين العودة.

  • هاجس الأمن:

كل من جنوب إفريقيا وإسرائيل طورت سياسات خارجية مماثلة. كلتا الدولتين سعت إلى زعزعة استقرار جيرانها من اجل التقليل إلى أدنى حد من دعمها للفصائل المعارضة، وتعزيز الأمن الداخلي (فإسرائيل سعت إلى القضاء على قواعد منظمة التحرير الفلسطينية في الدول العربية المجاورة ، بينما سعت دولة الافريكانيين إلى تخفيض قدرة بلدان الجنوب الإفريقي على مساعدة المؤتمر الوطني الإفريقي).

ثانيا: أوجه الاختلاف بين الصراعين:

لقد شهدت حقبة الثمانينات بداية للحل السلمي النهائي للصراع العنصري في جنوب أفريقيا، وعلى الرغم من أن الظروف متشابهة مع القضية الفلسطينية، في نفس الآن الدولي، فإنه لم يصل الصراع الفلسطيني والعربي مع الكيان الصهيوني إلى حل سلمي، نتيجة للفروق التالية:

  • الأمـن ودور العمل العسكري:

الأمن هو أكثر إلحاحا في قضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مما كان عليه في جنوب إفريقيا. حالة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني شهدت حروبا إقليمية شاركت فيها الدول المجاورة كذلك. الصراع في جنوب إفريقيا كان صامتا نسبيا بالمقارنة وتميز بانخفاض أعمال الإرهاب الكبرى. العنف السياسي لم يلعب دورا رئيسيا في تحديد نتيجة الصراع.

  • طبيعة الصراع، وحل الدولة الواحدة:

ثمة عامل وجودي فاعل في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والذي كان غائبا إلى حد كبير في حالة جنوب إفريقيا. ويتضح هذا في حقيقة انه في حين أن الأغلبية الساحقة من سكان جنوب إفريقي، السود والبيض، قبلت شكلا من أشكال التسوية في دولة واحدة، إلا أن مفهوم الحل القائم على دولتين يتمتع بقبول واسع في كل من المجتمعات المحلية على الجانبين في قضية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو صراع على الحق في الوجود. الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يتعامل بالمطلقات، سواء كان ذلك في حق العودة أو مسائل السيادة (مثل مطلب الجانبين بالسيادة الحصرية على القدس). السود في جنوب إفريقيا ومن ناحية أخرى كانت يطالبون بتغيرات كمية، أي أرادوا امتدادا لذلك النوع من الديمقراطية الذي يتمتع به الافريكانيين البيض. الأرض لم تكن عاملا في جنوب إفريقيا إذ أن كلتا الطائفتين كانتا متفقتين على حدود الدولة وضرورة وجود التنظيم السياسي الموحد.

وكان هناك أخلاقيات ليبراليه قوية انتشرت وأثرت في مجتمع جنوب إفريقيا. تصوير الصراع على انه ابيض ضد اسود فقط مضلل بشكل كبير إذ أن عدد كبير من البيض في جنوب إفريقيا أعلن تأييده لمنظمة المؤتمر الوطني الإفريقي، والواقع أن المنظمة كان فيها كثير من الأعضاء البيض البارزين.

  • عنصر القيـادة:

كلا من دي كليرك ونلسون مانديلا كان قادرا على قيادة مجتمعه إلى وضع لم يكونوا يعتقدون انه ممكن في السابق. بشكل حاسم، اعترف كلا القائدين بالحاجة إلى دعم الآخر وليس الضغط على نقاط ضعفه. القرار السياسي الناجح أصبح ممكنا فقط بفضل تعاون واسع بين الجانبين. يمكن القول أن هذه الدرجة من الثقة المتبادلة غائبة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وأحسن دليل على ذلك هو استمرار المحاولات الإسرائيلية الرامية إلى تقويض رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات. لجعله في موقف أضعف.

الزعيمان الجنوب أفريقيان أيضا كانا سياسيين عنيدين سعوا لتحقيق أفضل صفقة لمجتمعاتهم     (في الحالة الفلسطينية، تميزت المفاوضات بانحدارات مستمرة في سقف التفاوض للمفاوض الفلسطيني، مقدما العديد من التنازلات، بعكس الجانب الإسرائيلي الذي رفع من سقف تفاوضه باستمرار). وفي الوقت ذاته أقرا بالحاجة إلى تقديم تنازلات بشأن المسائل الحاسمة من اجل إبقاء المعارضة على الحائط أثناء عملية السلام. دي كليرك ومانديلا كانا أيضا في غاية البراغماتية، إذ اعترفا بان تدهور الأوضاع الوطنية والدولية سيؤثر على جميع سكان جنوب إفريقيا وانه لم يكن في مصالح أحد الحفاظ على الوضع الراهن.

  • الـدور الدولي:

البيض في جنوب إفريقيا كانوا يائسين من الحصول على الاعتراف الدولي ، ووضع حد للعزلة التي جلبها الفصل العنصري. وبذلك كانوا على استعداد لتبنى الإصلاح السياسي من اجل فتح جنوب إفريقيا على بقية دول العالم. في حين أن الكيان الدولي كان ومازال يوفر غطاء لحماية إسرائيل وتصرفاتها، والضغط على الفلسطينيين بكافة الأشكال لتقديم التنازلات.



  • الوضع الاقتصادي، دور المؤسسة العسكرية:

الاقتصاد كان عاملا حاسما في الصراع الجنوب أفريقي، اقتصاد جنوب إفريقيا تعرض لعجز بنسبة 10-12٪ بحلول أواخر الثمانينات، والعقوبات الدولية الصارمة تسببت في خسائر فادحه. ومن ثم فقد رأى البيض في جنوب إفريقيا أن استمرار سياسات الفصل العنصري لا تخدم مصالحهم. يضاف إلى هذا أن هناك ضغط متزايد من العسكريين الذين قالوا أن هناك حاجة إلى إصلاحات سياسية بجانب التدابير الأمنية إذا أردنا أن نحقق الاستقرار على المدى الطويل. وعلى العكس من ذلك استمر التأييد والدعم الدولي اقتصاديا وعسكريا للكيان الصهيوني رغم استمرار معاناة الشعب الفلسطيني. بشكل يساعد الإسرائيليين على الاستمرار في سياساتهم العنصرية.

  • الاحتضان الدولي والإقليمي لحركات المقاومة :

لقد كان الرأي العام الدولي حاسما في حل الصراع الجنوب أفريقي، فضلا عن استضافة العديد من الدول الأفريقية والأوربية للمعارضة السلمية الجنوب أفريقية، كما أن المقاومة المسلحة استمرت في الانطلاق من دول الجوار الجنوب أفريقي. أما في الحالة الفلسطينية، فقد قيدت دول الجوار الإقليمي النشاط السياسي والعسكري الفلسطيني، ومارست الدول الغربية المزيد من الضغوط على الفلسطينيين.


فــائدة:

وأخيرا فمن المؤكد أن كافة الممارسات الإسرائيلية العنصرية ما هي إلا إعادة إنتاج لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ولكن مع عدد من الاختلافات، لكن الحقيقة الأكثر وضوحا هي أن إسرائيل لم تدركها على ما يبدو بعد، وهي حقيقة زوال نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ولم تدرك إسرائيل بعد أن الإجراءات العنصرية لأي مجتمع عنصري في ذات الوقت تحمل بذور فناء هذا المجتمع، والإجراءات العنصرية عادة ما تولد ديناميكيات جديدة للرد على هذه الإجراءات وتكون مسنودة بحالة تعاطف خارجي لا محدود.

قائمـة المراجع



جـدول المحتويـات

الباب الأول: المقدمـة:

1

أولا: البطاقة التعريفية

1

ثانيا: جنوب أفريقيا، الجغرافيا والتاريخ

2

الموقـع

2

التضاريس، المناخ، السكان، اللغات، الأديان

3

الموارد الطبيعية، تاريخ السكان

4

الباب الثاني: التمييز العنصري في جنوب أفريقيا:

5

التعريف، خلفية نظام التمييز العنصري التاريخية قبل عام 1948م

5

دولـة التمييز

6

قوانين الفصل العنصري

8

الوحدة بين البيض

9

نظام الوطن البديل

10

الإبعاد القسري

12

المقاومة الداخلية

13

الأمم المتحدة والتحرك الدولي

15

الانفتاح على الخارج، منظمة الوحدة الأفريقية

17

الأمن القومي

18

حالة الطوارئ

19

السنوات الأخيرة من الفصل العنصري

20

البرلمان ثلاثي المجالس، الإصلاحات والاتصال مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي تحت حكم بوتا

21

رئاسة إف. دبليو. ديك ليرك

22

المفاوضـات

23

انتخابات عام 1948

25

الباب الثالث: القضية الفلسطينية والصراع في جنوب أفريقيا

27

أولا: وجه الشبه بين معاناة الشعبين

27

ثانيا: أوجه الاختلاف بين الصراعين

31

فـائدة

33

قائمة المراجع

34

جدول المحتويات

35


https://www.mik1111.blogspot.com https://www.facebook.com/kauifi

التعليقات
0 التعليقات

0 الردود:

إرسال تعليق

شكرا لك
بصراحة استفدت كثيرا من هذه التدوينة
ان شاء الله في ميزان حسناتك