المقـــدمة
كانت الحرب النفسية قديماً مرتبطة بالمعارك الحربية بصورة أَساسية، وكانت أَحد عوامل فشل أَو نجاح تلك المعارك.
ويعزو المؤرخون الغربيون أُصول الحرب النفسية إِلى فرنسة في عهد نابليون.
والحقيقة أنها فن حـربي قـديم، أَجـاده الصينيون والهنود، والعرب المسلمون منذ عهد الخلفاء الراشدين، وأَصبح محبوكاً في عهد الأُمويين، وقد عرف الصينيون الحرب النفسية قبل الميلاد بقرون، كذلك مارس قدماء الهنود الحرب النفسية، وعرف أَباطرة الرومان أَهمية الدعاية، وفائدة الشعراء والأُدباء في نشرها.
لقد وجد منقوشاً على جدار أَحد المعابد في مدينة دلفي اليونانية القديمة (رأس المعرفة معرفة الذات)، لذا فإن أهم معرفة للإنسان هي معرفة نفسه. وقال أردان دوبيك(): (إِن القتال هو الهدف النهائي للجيوش، والإِنسان هو الأَداة الأولى للقتال. فلا يمكن أَن يكون هناك شيء منظم بصورة عاقلة في جيش من الجيوش... دون معرفة دقيقة بهذه الأَداة الأُولى: معرفة بالرجـل،
وبوضعه المعنوي في هذه اللحظة من القتال).
فالإِنسان يعيش في عالم متغير، وفي مجتمع له أَنظمته وتراثه وثقافته وعاداته، ويتفاعل دائماً مع البيئة المحيطة به، فهو يتأثر ويؤثر فيها().
وفي الحرب العالمية الأُولى جاء في الطلب البائس للمارشال هندبرغ الموجه إِلى القوات المسلحة الأَلمانية والسكان المدنيين خلال الحرب عندما كانت الحرب النفسية قد بدأَت:
(يدير العدو قتاله ضدنا بوسائل مختلفة، وهو لا يقصف جبهتنا بالمدفعية فقط، بل بالأَوراق المطبوعة أَيضاً، والتي تقتل هي أَيضاً كما تفعله قنابله، يلقي طياروه المنشورات علينا لتحطيم روحنا المعنوية. ويأمل العدو بأن الجنود سيرسلون المنشورات الملقاة عليهم من السماء بحسن نية إلى وطنهم حيث ستتناقلها الأَيدي، وسيتحدث بها الناس في المطاعم والمحلات العامة وفي البيوت، وسيبتلع آلاف الناس سمومها في غفلة من أَنفسهم)().
ويقول ديغول: (لكي تنتصر دولة في الحرب عليها أن تشن الحرب النفسية قبل أن تتحرك قواتها في ميدان القتال. وتظل الحرب النفسية تساند هذه القوات حتى تنتهي مهماتها)().
وقد كتب أحد قادة الجيوش المتحاربة في الحرب العالمية الثانية يقول: إنه وجد أن أفتك سلاح يؤدي إلى حسم معركة من المعارك هو أن يتم التأثير على نفسية ومعنوية الجندي المعادي؛ لكي يهتز إصبعه حينما يريد أن يضغط على زناد بندقيته. فهو عندما يرتجف لا يعرف كيف يصوب سلاحه، وعندئذ يخطئ الهدف.
لقد اقترن اصطلاح (الحرب النفسية) بالحروب الفعلية، لكنها في الحقيقة قائمة على قدم وسـاق في الحـروب (الباردة) التي تـسبق أو تلي الحروب (الساخنة)، بل إن الحرب الباردة هي الحرب النفسية ذاتها.
فالحرب النفسية يمكن أن توجه ضد الفكر لتشويشه، وضد العقيدة لزعزعتها، وضد الشجاعة لتخديرها، وضد الثقة بالنفس لزرع عوامل الريبة والشك فيها، وأخيراً ضد الرغبة في القتال.
إن العودة إلى تاريخ أمتنا العظيم توضح لنا رواج سلاح الحرب النفسية أولاً، وتبين مقدار ما بذله المشركون في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم من جهود لاختراق صفوف المسلمين، والتغلغل لتمرير وسائل حربهم النفسية؛ اعتقاداً منهم بإمكانية النيل من المؤمنين، وزعزعة نفوسهم عن الإيمان. غير أن جهود الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوة عزيمته، وإيمان أصحابه قد فوت الفرصة على المشركين من المضي في أهداف حربهم النفسية.
وبمقدار ما كانت عناصر الحرب النفسية التي استخدمها المشركون متعددة وشاملة، فإن عوامل التصدي لها، والتأثير النفسي باتجاه مقاومتها من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين كانت أدق وأعظم.
وفي عصر الخلفاء الراشدين كانت الردة عن الإسلام، والقضاء عليها، والفتوحات الإسلامية التي قضت على أكبر دولتين كانتا قائمتين: دولة الفرس، ودولة الروم، استخدمت الحرب النفسية خلال هذه الحروب بشكل كبير؛ مما
ساعد المسلمين على تحقيق الانتصارات في كل هذه الحـروب.
ولقد تطورت الحرب النفسية في العصر الأموي بشكل أكبر تنظيماً وسعة، سواء في بناء الدولة الأموية وتوطيد أركانها، أو خلال الفتوحات الإسلامية في بلاد المغرب وبلاد المشرق.
لقد حاولت في هذه الأطروحة توضيح الحرب النفسية خلال فترة محددة من التاريخ الإسـلامي؛ لتغطي مرحلة الدعوة الإسـلامية، ونشوء الدولة الإسلامية، وتوسعها خارج جزيرة العرب؛ لتصل حدودها إلى الصين شرقاً، وإلى المحيط الأطلسي غرباً. وهذا موضوع واسع جداً. وقد كنت أعتقد أن هذا الموضوع قد بحث تاريخياً بشكل يوازي البحث في التاريخ الإسلامي. إلا أني لم أجد ذلك، واقتصر بحثه في التاريخ الإسلامي على إشارات وتنويهات في قسم من الكتب التاريخية، وبخاصة تاريخ المعارك.
تم تقسيم الأطروحة إلى مقدمة، وخمسة فصول:
تضمن الفصل الأول: التعريف بالحرب النفسية؛ حيث اشتمل على تعاريف: الحرب النفسية، وعناصرها، وأهدافها، والمصطلحات ذات العلاقة بها.
تضمن الفصل الثاني: الحرب النفسية خلال عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتناول هذا الفصل عوامل الحرب النفسية التي استخدمها المشركون ضد الدعوة الإسلامية، إضافة إلى دور اليهود والمنافقين، وتطرق الفصل كذلك إلى أساليب التصدي لهذه الحرب، وكيفية استخدام المسلمين للحرب النفسية المضادة في تفتيت المشركين، والانتصار عليهم.
اشتمل الفصل الثالث على: الحرب النفسية خلال حروب الردة في عهد الخلفاء الراشدين، ووضحت في هذا الفصل كيف استخدمت الحرب النفسية في معالجة المرتدين، وتوجيه القوات لقتالهم، واستخدامها خلال المعارك وبعدها.
تناول الفصل الرابع: الحرب النفسية خلال الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، وتم التركيز على الفتوحات في العراق والشام، وأهم عوامل الحرب النفسية التي استخدمت خلالها.
أما الفصل الخامس، فقد تضمن الحرب النفسية خلال العصر الأموي مركزاً على ثلاثة جوانب، منها: كسب التأييد للأمويين، والقضاء على الثورات والفتن، والجانب الثالث: الفتوحات الإسلامية في العصر الأموي.
وهنا أود الإشارة إلى نقطتين أساسيتين في أسلوب الأطروحة:
النقطة الأولى: عدم تناول كافة المعارك والأحداث بالمستوى نفسه، وإنما التركيز على المعارك التي تظهر فيها عوامل الحرب النفسية وعناصرها أكثر من غيرها.
النقطة الثانية: هنالك العديد من عوامل الحرب النفسية وعناصرها تتكرر في المعارك، ولغرض تجنب التكرار لهذه العوامل، فقد حاولت أن أبين عوامل الحرب النفسية المستجدة في المعارك اللاحقة دون أن أكرر ما تطرقت إليه منها في معركة سابقة.
وفي الختام: أرجو أن أكون قد وفقت في تقديم بحث تاريخي لجانب من جوانب تاريخنا العظيم. ومن الله التوفيق.
البـاحث
p p p