كورونا وسؤال الشر! أين الله مما يحدث في العالم؟!
ما الذي يحدث للعالم، ولماذا يحدث؟ ما هذا الوباء الذي أجهد الجميع؟ وأنهك الصغار والكبار، وأدخل البشر جميعًا في أزمة وحالة طوارئ يهددهم بسلب أحبائهم، والفتك بهم. فأين الله من كل هذا؟!
هل هو يعلم بما يحدث؟ طبعًا هو عالمٌ بكل شيء. إذن لِمَ لا يتدخل لإيقافه وتخليص البشرية؟ هل هو عجزٌ منه؟ أم أنه إلهٌ شرير، حاشاه سبحانه!
أخلقنا ليعذبنا بالبأساء والضراء؟ فأين رحمته وعطفه من وباء شرس اجتاح الأرض واختطف آلاف الأرواح ولا يزال يمضي بلا هوادة، عطل مصالح الناس وشتت سير المنظومة البشرية على كل الأصعدة إلى أجل غير مسمى، ما جدوى إيماننا بالله إذن؟ هل آن الأوان لنتشكك في رحمته وحكمته؟
مشكلة الشر تعاود الظهور
في فترات الحروب والأوبئة والكوارث، تتقافز الأسئلة الوجودية إلى ذهن الإنسان وتُستحضر الاستفهامات التي قد يغفل عنها في حياته الطبيعية.
وسؤال الشر هو الأكثر حضورًا على مر العصور، قديمٌ بقدم الإنسان وضارب بجذوره في التاريخ.
السبب الأول للإلحاد في العالم!
قد يتذرع الملاحدة لإنكار الخالق بنظرية التطور تارة وبالأكوان المتوازية تارة أخرى أو بأية نظريات علمية أخرى.. لكن غالبًا ما يبقى سؤال الشر قابعًا خلف أكثر تلك التبريرات ومستترًا بها..
ذكر الأديب الأيرلندي سي إس لويس في كتابه (إبطال الإنسان): "أن مشكلة الشر التي قادته للإلحاد في شبابه هي عينها ما أعادته للإيمان، فقد وجد في قلب المشكلة الإيمان بالله تعالى"..
ويا للعجب.. فالفكر المادي الذي ينكر وجود أي قيمة حقيقية أو موضوعية لمعيار الخير والشر هو نفسه ما جعل من وجود الشر سبيلًا لإنكار الخالق تعالى.. أصبحت هذه الحجة هي الأكثر شعبية والأكثر جدلًا في الحوارات الغربية.
يظهر ذلك بجلاء من كمية الدراسات التي دارت حولها، فقد أُحصيت بما يقارب الخمسة آلاف دراسة وبحث تناولوا المشكلة فقط في النصف الثاني من القرن العشرين، أي ما يعادل ألف بحث ومؤلَّف في العقد الواحد! مؤشر واضح على عمق الأزمة وشدة حضورها..
انفكاك الجهة..
هل يعقل أن يكون طغيان وظلم قاضٍ في المحكمة دليلًا على عدم وجود المحكمة أساسًا؟ ما العلاقة بين القضيتين؟ ظلم القاضي، وجود القاضي أو المحكمة؟
هكذا يصوغ الملحد تبريره لينفي الخالق تعالى، وكل عاقل نبيه يعلم برسوخ أن المبحَثين معزولين، فأدلة وجود الخالق ثبتت بطرق عقلية تختلف من حيث الأصل عن مباحث الحكمة الإلهية.
فطيّ الاثنين تحت بساط واحد لغو وباطل، فوجود الشر لا يقول أن الله غير موجود وإنما يطرح سؤالًا أصغر بكثير.. لماذا سمح الله بوجود الشرور و الآلام؟!
فساد المقدمات..
تقوم الحجة على مقدمات ثلاثة صاغها أبيقور من القدماء والفيلسوف الأسترالي جون ليزلي مكاي من المعاصرين و هي:
الله كلي القدرة \ الله كلي الخيرية \ الشر موجود.
هذه القضايا الثلاثة متناقضة بزعمهم، فإذا صدقت اثنتان كانت الثالثة كاذبة وهذا تناقض paradox.
لكن..
تنطوي هذه المقدمات على فهم خاطئ متعلق بطبيعة صفات الله تعالى تجعلها قائمة على ما يسمونه مغالطة القسمة الثنائية أو حصر الخيارات..
فإن اختزال صفات الله تعالى بالخيرية والقدرة هو ادعاء لا يلتزمه المؤمن بالوحي الإلهي، فالذي أنبأنا عن عدالة الله ورحمته ولطفه هو نفسه الذي أعلمنا عن حكمته ووعدنا بنعيمه وتوعدنا بعذابه..
ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين مثله..
قلنا بأن وجود الله عند المؤمن ثبت بيقين عقلي محكم؛ فهل هناك ما يمنع عقلًا وجود حكمة خفية من وراء كل شر؟ فإن نفى المتشكك المنع سقط اعتراضه وإن أثبت المانع طُلب منه الدليل وهو أعجز من أن يقدمه..
وبإجمال: وجود الله قضية يقينية.. ووجود شر بلا حكمة هو فرضية..
ولا يمكن عند العقلاء أن يُقدَّم ما هو ظني على ما هو قطعي محكم.
العالم المستحيل..
عالمنا عالم مفهوم مدرك لأنه قائم على الثنائيات التي تلتقطها عقولنا وتفرزها وتقيس عليها، هذه الأضداد شرط لقيام عالم التكليف والابتلاء الذي قدره الله، خالق ومخلوق، ليل ونهار، صحة ومرض، غلظة وليونة، صفح وانتقام، فالإنسان يفهم المعاني بأضدادها.. وانعدامها يعني استحالة قيام العقل التكليفي، لأنها تعني وحدوية الخالق والمخلوق، ليس فيها حسن وقبيح.. أو افعل ولا تفعل.. فمطالبة الملحد بكونٍ فيه تكليف مع خلوّه من هذه الثنائيات هي مطالبة بعالم مستحيل.. ولو أمعنّا النظر فيه سيكون قريبًا من العدم.
وعود زائفة..
مع سحب البساط عن قدمي الدين شيئًا فشيئًا بدأت التيارات الربوبية تعلو مع عصور النهضة الأوروبية وما بعدها، وبات الدين مضيقًا عليه مطرودًا هنا وهناك، كان الإيمان بالله لا يزال متماسكًا لكن فقد الكثير من بريقه وغائيته وتحول الغالب إلى مجرد سبب أول أو محرك أول كما قال أرسطو، المحرك الذي لا يتحرك ولا يهتم بشأن العالم أو الإنسان.
ثم ما لبث هذا الإله الزائف حتى تم قطع أي إمكانية للصلة مع السماء على يد ديفيد هيوم وإيمانويل كانط، وأخيرًا أعلن عن موت الإله مع نيتشه..
فُصح عن انتفاء الحاجة لله بعد أن سد العلم بزعمهم كل الثغرات التي كان يستغلها المؤمنون ليُقحموا الإله فيها، رفعت من مستوى الحساسية للألم لدى البشرية إلى مستوى مفرط، هو أكثر ترفًا ورفاهية وسلطة وتمكينًا، لكن أكثر تذمرًا وسخطًا بعد أن باتت دورة الحياة الإنسانية في ثلاث مراحل: إنتاج في المصنع، استهلاك في السوق، واللذة في ملهى ليلي أو أي معادل آخر.
إنسان اللذة المخمور، و أسوار العقل..
جورج كانتور الفيلسوف وعالم الرياضيات المرموق، حاول طوال سنوات تحليل مفهوم (اللانهاية) وبذل مجهودًا كبيرًا في سبيل ذلك، كان يقول أحيانًا بأن اللانهاية هي الله، وتأزمت حالته مع عجزه عن إيجاد الصيغة الكاملة لها، فكان يصاب بالهوس والاكتئاب وينقل إلى مستشفى للأمراض النفسية.
كيف لهذا الإنسان إذن أن يزعم إحاطته بكل شيء علمًا؟! كيف له أن يقول بأن عدم إدراكه لأوجه الحكمة من بعض الشرور تخدش الحكمة الإلهية؟ أطّلع الغيب؟ أم اتخذ عند الرحمن عهدًا؟ من منا لم يسمع بقاعدة (عدم الوجدان لا تعني عدم الوجود؟) هل استطاع أن يعادل المسافة بين علمه وعقله المحدود وبين علم الله اللامحدود ليدّعي غياب الحكمة؟
رجل القش مجددًا..
يدعي الملحد أو المتشكك أن العالَم الذي يأتي به الله المطلق القدرة والعلم ينبغي أن يكون كاملًا بلا عيوب، أو أن الأديان تدعي ذلك! بينما نحن لا نرى إلا كونًا فيه ما فيه من الشرور الأخلاقية والطبيعية وحتى المجانية.
وعند التحقيق، لا نجد هذا الكلام إلا تقوّلا منه، فلم يدعي الوحي الإلهي أن الدنيا خالية من الشرور والمصائب بل إن جوهر الدين الحنيف يدور حول قضية الابتلاء والصبر والمصابرة أو الجزع والكفران. خُلق الإنسان ليكابد ويجاهد، والمؤمن لا يرى في ذلك أي غرابة، لا يتمعر وجهه أو يسخط حينما تدور الدنيا عليه، فهو متيقن أن الحكيم تبارك وتعالى لن يدخر لعبده إلا الخير إما في دنياه أو موصولًا في أخراه.
وتعزيزًا لهذا المعنى نجد الآيات القرآنية تتناول ثنائية الإيمان بالله واليوم الآخر بصورة مطردة في بيان جلي على مركزية هذا الركن الذي يكاد يُنسى في الأديان الأخرى حتى السماوية منها، الإسلام أعاد الاعتبار للقيمة الفلسفية المترتبة على على الإيمان بمبدأ التعويض الإلهي، في الديانة اليهودية التي يفترض أنها سماوية، بات الوعد الإلهي متعلقًا بالتمكين الأرضي بعد ما نالها من التحريف ما نالها، في بعض الرسائل التي كان يبعثها بكر نجل الرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيجوفيتش إلى والده في السجن يقول: "هل تعرف أحدًا يمكنني أن أستعير منه نسخة مختلفة من التوراة؟ فإنني أشك في العهد القديم، أو بالأحرى أشك في مصدره، وأخشى أن يكون الناس قد حرفوه بدرجة كبيرة.. فلا يذكر فيها فضيلة التسامح وليس هناك أي ذكر للعالم الآخر! فيا ضيعة الأمل!"
ماذا عن الشر المجاني؟
قد علمنا عن اندراج ابتلاءات المُكلفين تحت خانة الاختبار، فماذا عن الأمراض والسرطانات التي تصيب الأطفال الغير مكلفين أصلًا وتقتلهم، ما ذنب طفلة في الخامسة من عمرها يغتصبها وغد معتوه؟!
يمكن إدراج الإجابة السابقة في إمكان وجود حكمة متجاوزة لمداركنا، وأن العقل لا يحيل ذلك، ونستطيع أن نقول بأن الاطراد السنني شرط ليكون العالم مسرحًا أخلاقيًا للتفاضل، وقد يقال بأن في ذلك بلاء لآبائهم، وفي طبيعة الحال العالم الإلحادي لا يتمخض عنه اعتراض من هذا القبيل لأنه عبثي لا اكتراثي ضرورة، لكن من منظور إسلامي فليس هناك شر مجاني بل الصحيح أنه خير مجاني! فغير المكلف من أطفال المسلمين وغير المسلمين هم من أهل الجنة خالدين فيها أبدًا كما نقل الإمام ابن حزم أن ذلك هو قول جمهور العلماء..
التعويض الإلهي يقوّض أي أساس للشر في هذا العالم المتناهي، النظر إلى الوجود ككيان ممتد لا ينتهي بانقضاء الموت، ليتساوى القاتل والمقتول، والمغتصِب والمغتصَب، المبتلى والمعافى، وهكذا الظالم والمظلوم.. الجلاد والضحية سيان في المآل والمصير!.. أي معنى للعدالة الإلهية سيبقى؟!
الرؤية الربوبية المختزلة هذه هي رأس الاستشكال، ووقود الارتياب الذي يدفع البعض للكفر بهذا الإله، فهو قد ينكر وجود الله إما سخطًا و تمردًا على هذا الإله غير العادل، أو لانعدام أي معنى أو باعث يدفعه للإيمان به، فكأن إقراره به من عدمه لن يغير شيئًا من حقيقة الشرور التي تجتاح العالم، لأنه عاجز عن تقديم أي إجابة شافية، فلا غرابة أن يخبو الإيمان و يتلاشى..
"كيف يمكن لله أن يأذن بمعاناة الأبرياء في هذا العالم؟"
هكذا سأل الدبلوماسي السويسري المسلم (تشارلز لي غاي إيتون) نفسه؟ كانت إجابته الجميلة اختصارا لكل شيء:
"استيقظ شخص ما من كابوس مليء بالرعب والعذاب ليجد نفسه في منزله إلى جانب أحبابه وأشعة الشمس مشرقة عبر النافذة ولا زال أمامه أيام مشرقة يعيشها ويُشبع فيها أعمق رغباته، فكم من الوقت سيتذكر فيه ألم حلمه؟
بالمقابل إن أوقظ من حلم سعيد مليء بالبهجة والسرور ليجد نفسه في زنزانة سجنٍ مألوفة جيدًا له، ينتظر الحصة التالية من العذاب على أيدي مُستجوبين عديمي الرحمة ودون أدنى أمل، فهنا ستذوب وتتبدد سعادة الحلم في لحظات، سواء كان الحلم حُلوًا أو مرًّا، تظل الحقيقة مقدمة على الحلم والحقيقة الأعظم مقدمة على الأدنى منها".
بقلم/ حسين الدباغ