ثمة ظاهرة كنت أتلمسها في محيطي الإسلامي منذ زمن، وأخذت تتضح لي معالمها مع الوقت. وهي مفارقة يمكننا تسميتها "مفارقة بيت الداعية". نخالط كثيرًا من الأسر والأصدقاء الذين ينحدرون من عوائل متدينة وذات اهتمام بالدعوة وتوجيه المجتمع. بيد أن المفارقة النكدة، تقتضي أن بيت الداعية يعاني من اضطرابات على مستوى السلوك وتفكك على مستوى التراحم والدفء الأسري. وتظهر هذه المفارقة في ابتعاد رعية (أهل داره) التربوي/الدعاية من الالتزام الديني، والجفاف العاطفي/الأسري.
وبعد التأمل العابر تبيّنت لي عدة أسباب، لن يعدم الناظر المتأمل من الزيادة عليها، والإضافة إليها.
أولها: تزاحم الأولويات، فالمهتم بالشأن المجتمعي يستنفد وقته وجهده المحدود في تربية وتوجيه المجتمع، فإذا عاد إلى داره يكون قد استفرغ طاقته التوجيهية، فلا ينال منها أهل بيته نصيبهم، وقد يكون مستقرًا في ذهن الداعية أن أهله لمخالطتهم إياه، مسلّمون بالمبادئ التي تبناها والسلوكيات التي يدعو لها بحكم القرب والمساكنة، وليس الأمر كذلك.
ثانيا: تقصير الأفعال عن الأقوال، وهي طبيعة بشريّة مستقرّة، فتأثّر البعيد بكلام الداعية/المربي يكون أظهر وأعمق لكونه يتلقى مقولات جاهزة فيها من حرارة العاطفة وحسن المنطق ما يدعو متلقيها إلى استبطانها وتمثّلها، بيد أن الأمر مختلف كل الاختلاف عن تلقي الأقارب لهذه الرسائل، حيث إن واقع معايشتهم للداعية/المربي تجعلهم يقيسون أقواله على أفعاله التي غالبا ما تقصّر عن كمالاتِ مقولاته، إن لم تخالفها في أحيانٍ كثيرة، وهذا يورثهم زهدًا فيها، وإعراضًا عنها، إذ كانت لا تنطبق على قائلها، فلمَ يكلفون أنفسهم مشقة التمسك بها؟!
الثالث: تحميلهم ضريبة قربه، فمقاربة بعض المربين لمعالجة سلوكيات أهله، تكون في انطلاقه من مسلّمة لديه يظنها بدهية، وهي أنكم أهل بيت شيخ أو داعية، فماذا يقول الناس عنكم إذا لم تلتزموا بكمالاتِ ما أدعو إليه. وهذا ظلم وجور وتكليفهم المشقة والعُسر. فحمل الأقارب على كمالات الأفعال بدون مراعاة لهم واختصاصهم بالتلطف والتربية و إشباعهم بالمودة والنصح المتدرج فيه إعناتٌ لهم.
وأنت إذا تأملتَ في هذه الأسباب وتكرر نماذجها في محيطك، وجدت أن أغراض الشهرة، وحلاوة حسن الذكر على ألسن الناس، وسحر الجاه والمكانة الاجتماعية آفة هذه الظاهرة، وداؤها المصاحب لها الذي قلّ من يلتفت إليه من المربين وأصحاب الهم الدعوي، والله المستعان