الهولوكوست والجزيرة ~ محمد الكويفي

Change Language

لا خير في دراسة وعلم ونبوغ، اذا لم يصاحبه تقوى وعمل..

2019/05/21

الهولوكوست والجزيرة

كتب  الزميل زياد بركات

في مسألة الهولوكست والجزيرة//
بثت إحدى منصات شبكة الجزيرة، +AJ ، مادة صحافية عن الهولوكوست تضمن أخطاء قاتلة لا تليق فعلياً بوسيلة إعلام كبرى وبالغة التأثير مثل الجزيرة، وقد سارعت الشبكة إلى سحب المادة المشار إليها لمخالفتها المعايير الصحافية المعتمدة في قنوات الجزيرة والمنصات التابعة لها، وتزامن هذا مع تنديد إسرائيلي بالمادة المذكورة وبالجزيرة من جهة واتهامات تُكال جزافاً من جمهور عربي يرى في الجزيرة حزباً سياسياً ينتمي لمحور المقاومة لا وسيلة إعلام، من جهة أخرى، وقد رأى هؤلاء في سحب المادة الصحافية خضوعاً لإسرائيل وتخلياً عن "قضايا الأمة"، علماً بأن المادة المذكورة لم تعرض على مسؤول تحريري كبير، ولو عُرضت عليّ مثلاً، وأنا فلسطيني وأعمل في قناة الجزيرة-عربي ولست مسؤولاً فيها لرفضت بثها من دون تردد، كونها تسيء لا للصحافة التي أعرفها فقط، بل وللقضية الفلسطينية في جوهرها الأخلاقي، وهنا أرجو أن تسمحوا لي بأن أبسط أسبابي، وهي ثلاثة:
- الخطأ الأساسي الذي لم يتنبه له القائمون على إنتاج تلك المادة تمثل في اعتقاد كارثي لدي كثير من الشعبويين في المنطقة والعالم يقوم على أن النازية استهدفت اليهود وغيرهم، فلم التركيز على اليهود فقط؟! وهذه مغالطة تخالف حقيقة الأيديولوجيا النازية نفسها والوقائع التي جرت، فصحيح أن النازية تقوم على تفوق عرقي مزعوم لكنها لم تستهدف ما اعتبرتها الأعراق الأدنى الأخرى إلا في سياق سياسي، بينما قامت باستهداف اليهود في سياق وجودي إذا صح التعبير، فاليهودي يجب أن يباد لأنه يهودي، ولو كان فرنسياً أو بولندياً أو تشيكياً فإنه لا يُستثنى من فكرة "المحو" لكونه فرنسياً ما دام هو يهودي، بمعنى أن الفرنسي لو كان غير يهودي فإنه سيُخلى سبيله لو أُوقف على حاجز ألماني بينما سيُعتقل على الفور لو كان يهودياً، أي أن الفرز تم على أساس يهوديته لا كونه مواطناً لدولة أخرى في حالة حرب مع ألمانيا. هذا لم يحدث إلا مع اليهود، معهم كلهم وفي أي بلد وصلتها النازية، ويرى بعض المؤرخين أن ثمة آخرين تم استهدافهم مثل الغجر وملوني البشرة لكنه كان جزئياً وليس ممنهجاً وليس شاملاً ويستهدف وجودهم نفسه أياً كانوا وأينما أقاموا، هذا في حين أدرج هؤلاء المؤرخون ضحايا النازية من الشعوب الأخرى في سياق الحرب، فهم مواطنو دول كانت في حالة حرب مع النازية بينما أدرجوا الضحايا اليهود في سياق مفهوم الإبادة كونهم أُستهدفوا ليهوديتهم بالأساس وأياً كانت الدولة التي ينتمون إليها وما إذا كانت في حالة حرب أم لا.
- الخطأ الثاني سوء تقدير كارثي في الاستنتاج بأن اليهود استفادوا أو استغلوا الهولوكوست لإقامة دولة إسرائيل، فماذ نقول عن عمل الوكالة اليهودية في فلسطين قبل الحرب العالمية الثانية نفسها بكثير؟! وهل ثمة شعب في العالم يدفع نحو قتل ستة ملايين من أصل عدده الكامل، وأظنه كان نحو تسعة ملايين آنذاك وربما أكثر بقليل، لإقامة دولة لمن تبقى؟! هذه فكرة سخيفة ومهينة في كل المقاييس وتخالف التاريخ والمنطق، والأسوأ أنها تبرىء النازية ضمناً من المسؤولية عن واحدة من أسوأ الجرائم في التاريخ.
- لماذ حدث هذا الخطأ؟! ولماذا علينا أن نتفهم سحب الجزيرة للمادة المذكور؟! لعل الصحافة الجديدة، وهي على خفة لا تُحتمل وشائنة، تكون سبباً لا يجوز إغفاله، فقد ساد في العالم كله، في العقد الأخير تحديداً، مفهوم جديد يقوم على الاختصار حتى لو كان متعسفاً، والتشويق واستخدام تقنيات الغرافيكس القائمة على الاختزال، مما حشر قضايا كبيرة في أوعية صغيرة، وذاك ما أساء للقضايا والصحافة معاً، ولن تعدم من يقول لك اختصر وكثف وركز على الأرقام والحقائق، فالمتلقي عجول ويريد مادة صحافية رشيقة وسريعة مثل الطلقات بتقنيات جذابة، لكن هذا قام على إغفال السياقات، وتلك تحتاج شرحاً وتفسيراً وربطاً للعلوم الإنسانية لا عزلاً لها، ويحدث أحياناً أن تكون السياقات ذات عمق فلسفي أو تاريخي أو قانوني جامد، وهذا يتطلب من الصحافي توضيحاً للمادة الجافة بما لا يهدر معناها، وللحق فإن هذا أمر شاق جداً على صحافيين يظنون أن المسألة بهذه الخفة التي تتيحها وتتطلبها مواقع التواصل الاجتماعي، وما حدث في مادة الجزيرة المشار إليها ربما يندرج في هذا الفهم، فهي لم تتفهم السياقات ومعانيها، ثم ظن معدوها بحسن نية على الأغلب أن المقدمات لتكون صحيحة فيكفي أن تعطف بأرقام، لكنهم ادرجوا ذلك في سياق رغائبي ليصلوا إلى استنتاجات تتعلق بالراهن السياسي، والظن أننا بهذا نؤكد تعاطفنا مع المظلومية الفلسطينية، كأن التشكيك في ضحية ما يؤكد مظلومية ضحية أخرى، لهذا وسواه سحبت الجزيرة في ظني تلك المادة، وربما تكون لنا عودة إلى كوارث الصحافة الجديدة التي تسرطن شبكات التواصل الاجتماعي في السنوات القليلة الماضية.

التعليقات
0 التعليقات

0 الردود:

إرسال تعليق

شكرا لك
بصراحة استفدت كثيرا من هذه التدوينة
ان شاء الله في ميزان حسناتك