ملاحظات منهجية (٣)
.
إدارة المجتمع
.
في أحد المراكز الإسلامية المهمة في الغرب رأيت عجبا؛ رئيس المركز لا يصلي! سألت إخواني المصلين هناك فقالوا: هذا أفضل شيء، لأن كل الرؤساء السابقين يصنفون؛ هذا سعودي أو تركي، هذا سلفي أو صوفي أو إخواني أو أشعري، فإذا تصرّف تصرفا ما انسحب هذا على مجموعة المصلين التي ينتمي لها، لتنشب معارك بين هؤلاء وهؤلاء، الآن: هناك رئيس غير مصنف وبالتالي فهو متحرر من التبعات الأخرى، أي شخص يخل بنظام المركز أو يحاول فرض رأيه ويعمل مشكلة فالرئيس يتصل بالبوليس وينتهي الأمر! أما الرؤساء السابقون فسيتهم هو وجماعته بأنهم يوالون الكفار على المسلمين لو فعلوا مثل ذلك.
.
أصابتني حالة من الاكتئاب بينما أرى المصلين مرتاحين لهذه التجربة بحكم ما عانوه سابقا، وقلت في نفسي: كيف نستطيع إذاً أن نبني أنموذجنا الإسلامي ومشاريعنا القادرة على حفظ هويتنا ووجودنا وتكون لنا كلمتنا في هذه البلاد؟
.
في بلد آخر كنت أخطب الجمعة وأنا أشرح لإخواني أهمية أن نكون سفراء جيدين لإسلامنا وأمتنا وأن نتمثل رسالتنا السامية (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وإذا بشاب ينهض من بين المصلين وأخذ يصرخ (لا والله، هؤلاء الكفار يجب أن ندعسهم بالأحذية). والغريب أن هذا الأخ مقيم بين الكفار ويعيش من (الرعاية الاجتماعية) لهم.
.
كنت سابقا أظن أننا حينما نخرج من بلاد الاستبداد وسيطرة (الأوقاف) والمتابعات الأمنية سننطلق في رسم النموذج العملي الملموس، لكني سرعان ما اكتشفت أن (الاستبداد) كان أرحم من (الفوضى)، ويبدو أن هذه النتيجة تجلت أكثر في كثير من تجارب (الربيع العربي).
.
كيف يحصل هذا؟
أنا أقول لكم: إن غالبية الشباب المسلم يتعلم (الشريعة) بطريقة منقوصة، فهو يأخذ العلم عن شيخه الذي يثق به بمدارسة عدد من الكتب أو بسماع عدد من المحاضرات، لكن شيخه لا يعلمه المنهج الإسلامي في التعامل مع الآخرين ممن تعلموا على شيوخ آخرين، أو مع شرائح المجتمع الأخرى والتيارات الواسعة والمتشابكة.
.
تعالوا هنا لنشير إشارات سريعة لمنهجية الإسلام في ذلك:
ما حكم شارب الخمر ؟ ملعون بنص حديث رسول الله (لعن الله الخمر وشاربها)
طيب كيف إذاً ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لعن شارب خمر جاء إلى مجلس رسول الله ورائحة الخمر في فمه، بل قال عنه رسول الله (إنه يحب الله ورسوله)؟ تخيلوا لو أن شارب خمر دخل في مسجدنا أو في مجلس أحد مشايخنا؟ ألم أقل لكم إننا نركز ونؤكد (الطهرانية) ونهمل مسؤوليتنا (المجتمعية) ولذلك صرنا في واد ومجتمعاتنا في واد آخر.
.
أغرب من ذلك؛ منافق معلوم النفاق قال عن رسول الله (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) وهذه وقاحة وشتيمة وتهديد، ومع هذا كان رد رسول الله صلى الله عليه وسلم (بل نحسن صحبته) (كيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)، مع أنه عليه الصلاة والسلام كان هو السلطان الذي يستطيع أن يطبق حكم الله على هذا المنافق بقوة السلطة.
والأكبر من هذا كيف أدار رسول الله مجتمع المدينة المكوّن من (المسلمين واليهود) كيف ضبط هذه العلاقة مع إبقاء اليهود على دينهم وتجاراتهم وبساتينهم وصناعاتهم مع أن القرآن ينص (من يتولهم منكم فإنه منهم)؟ واليوم يأتي شاب قرأ سنة من السنن بفهمه أو بفهم شيخه فيرى نفسه مخولا من الله بأن يفرض فهمه هذا على كل مكان يحل فيه، حتى علمت من بعض المسجونين في السجون الأمريكية في أبي غريب وبوكا أن بعض هؤلاء الشباب كانوا يقيمون الحدود والتعازير على المدخنين ونحوهم متى ما سنحت فرصة لهم!
.
سألني أحد الشباب معترضا ومنتقدا؛ كيف تدعو المسلمين في الغرب إلى الالتزام بأنظمتهم وهي أنظمة كفرية؟ قلت: وأنت بأي نظام ستلتزم؟ قال؛ طبعا بالإسلام؟ قلت: لو كنت مع زوجتك في لندن واعتدت عليكما عصابة فماذا تفعل؟ قال؛ أخبر الشرطة، قلت؛ والشرطة هؤلاء هل يطبقون النظام الإسلامي؟
عرفت آنذاك مشكلة هؤلاء الشباب إنهم يظنون أن النظام الإسلامي كلمة تقال، أو تلك المشاجرات التي يتقنها مع إخوانه المصلين في المسجد، أو تلك السلوكيات الشائنة كالتهرب من دفع الإيجار لصاحب شقة كافر، فيكون في النتيجة صورة من اللصوصية والمخادعة التي تشوّه الإسلام نفسه في أعين تلك الشعوب. إنه لن يكون سوى عنصر مثير للفوضى في مجتمع منظم.
.
لقد كان بإمكان هؤلاء الشباب أن يشكلوا النموذج الناجح للحل الإسلامي في بلادهم وفي بلاد المهجر، بتنظيمهم لأنفسهم ولمؤسساتهم التعليمية والاقتصادية والسياسية وغير ذلك، لكن هذا يحتاج إلى إعداد مسبق وجهود من التوعية والتدريب و دراسة جادة لمنهج القرآن الكريم في إدارة المجتمعات وكذلك سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام.
.
لقد وقفت متعجبا غاية التعجب من جواب سيدنا هارون لأخيه موسى -عليهما السلام- (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) بعد أن عبدوا العجل وأغضبوا موسى حتى أخذ برأس هارون ولحيته وهو يقول له :(ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن) يعني أن موسى كان يريد من هارون أن يترك قومه هؤلاء الذين عبدوا العجل، لكن هارون رأى أن يبقى معهم ولا يشتتهم لعله يتمكن من إصلاحهم.
.
كنت أقول أيضًا ؛ حينما قال موسى لفرعون (موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) لماذا اختار موسى يوم الزينة وهو يوم عيد الفراعنة؟ وهل ورد أن موسى قد اشترط أن يحشر الناس من غير اختلاط ولا تبرج مثلا؟
.
الخلاصة إخواني أن الذي لا يفهم واقع (العالمين) على اختلافهم لن يكون أبدا قادرا على تحقيق قوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) بل سيكون مصدرا للقلق والاضطراب وصناعة المشاكل حتى في مسجده وأسرته ومحل عمله، وأنه سيكون سببا مباشرا في ضياع قومه وهلاكهم وذهاب ريحهم (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) ولا حول ولا قوة إلا بالله
.
محمد عياش الكبيسي