الضابط الذي قتل قائده!
تمر اليوم ذكرى الانقلاب الفاشل في تركيا، وفي كلّ ذكرى يظلّ اسم «عُمر خالص دمير» حاضرًا. وهو ضابط صفّ اختار أن ينحاز للجانب المناسب من التاريخ في لحظةٍ حرجة كلّفته حياته، لكنّها ساهمت بشكلٍ كبير في إفشال الانقلاب.
حوالي الساعة الثانية والنصف صباحًا تحرّك الجنرال «سميح ترزي» بطائرةٍ عسكريّة من مقر قيادته، جنوب شرق تركيا، متوجّهًا إلى العاصمة التركية أنقرة، وكانت مهمّته الرئيسية باعتباره جنرالًا هو السيطرة على «قيادة القوات الخاصّة» في العاصمة.
لو سيطر المنقلبون على مقر قيادة القوات الخاصّة لرجحت كفتهم أكثر في الانقلاب. كان المَقَرّ سيستخدم في عمليات القنص واغتيالات كبار مسؤولي الدولة، كما كانت سيطرتهم على المقر ستعيق تحرُّك القوات الخاصة نفسها التي لعبت دوراً كبيراً في إفشال الانقلاب.
حدث الأمر في دقائق معدودة، وصل الجنرال سميح ترزي على رأس قوّاته إلى مقرّ القوات الخاصة في العاصمة، كان الضابط عُمر خالص دمير وهو سكرتير قائد القوات الخاصة في أنقرة مناوبًا، وما إن وصله الخبر حتّى اتصل بقائده يسأله إن كان هناك أمر بسيطرة سميح ترزي على المقر؟ أخبره قائده أن لا، وكلّفه بالدفاع عن المقرّ. وحده.
يُظهر الفيديو (في التعليقات) أنّ عمر خالص دمير خرج لاستقبال سميح ترزي، لكن بدلًا من التحية العسكرية، كانت رصاصته تخترق رأس الجنرال. بالطبع أردى جنود الجنرال عُمر دمير مضرجًا في دمائه، بثلاثين رصاصة مرة واحدة.
من خلال هذه الجسارة الاستثنائية ذهب أحد كبار المنقلبين وراحت الفرصة على البقية بالسيطرة على القوات الخاصة وتوجيه القوات من هُناك. وأصبح عمر دمير أيقونة بطولية في تركيا، تُسمّى باسمه المستشفيات والشوارع، وترفرف الأعلام بصورته في فعاليّات «صون الديموقراطية».
لم تنتهِ القصّة هنا، لقد كان سميح ترزي قائدًا لعُمر خالص دمير نفسه في أفغانستان!
ضمن قوّات حفظ السلام في أفغانستان التي شاركت فيها تركيا كان سميح ترزي قائدًا في هذه القوات، وعُمر دمير أحد مجنّديها.
أخذني الفضول للبحث أكثر وأكثر حول الشخصيّتين.
سميح ترزي تخرّج من أكاديمية الجيش التركي عام 1989. بعد عشرين عامًا أصبح «عقيد في سلاح المهندسين» ومنها إلى رتبة عميد عام 2014، إلى أن تولّى منصبًا كبيرً آخر هو: قائد اللواء الأول للقوات الخاصة وقاعدة عمليات القوات الخاصة في سيلوبي، جنوب شرق تركيا.
الضابط عُمر دمير، ابن أسرةٍ فقيرة. طفل ضمن 9 أطفال في قريةٍ لا يسمع بها أحد اسمها «شكركويو» بمحافظة نايدة وسط تركيا. التحق بالقوات التركية (ليس بالأكاديميّة) عام 1999، برتبة جندي، وخدم خارج تركيا بشمال العراق وفي القوات التركية بأفغانستان تحت إمرة سميح ترزي، ثم رُقِّي إلى رتبة «رقيب أول» في القوات الخاصة.
أتخيّل مسلسلًا دراميًّا بديعًا، لا يحكي عن الانقلاب ولا توابعه بأيّ حال، وإنّما يحكي فقط «دراما العلاقة بين هاتين الشخصيّتين: ضابط الصفّ وقائده».
ذلك الجنرال «ابن الذّوات» المتخرّج من الأكاديمية العسكرية للجيش، والذي ترقّى ثلاث ترقيات كُبرى على الأقلّ، ليصبح قائدًا مهمًا في الجيش. وذلك المُجنّد «ابن البُسطاء» الذي جاء من وسط الأناضول الفقير، ليلتقي في النهاية بقائده القديم في لحظةٍ حاسمة من لحظات التاريخ التي لا تتكرّر كثيرًا.
لتتركّز لحظات الدراما الأساسيّة حول ماضي كلٍّ منهما، ومنطلقاته في الحياة ومصالحه ومصالح طبقته (الناس اللي جيّ منهم)، لينتهي المشهد بمقتل الاثنين. أحدهما قُتل لأنّه اختار الجانب الصحيح من التاريخ، الجانب الذي لا يأتي على مصالح «الناس اللي جيّ منهم» في مواجهة الجنرال الذي مصلحته هي بالضرورة سحق مصالح هؤلاء العامّة.
لحظة في التاريخ ولا أي لحظة، دراما لا تتكرّر كثيرًا. دراما تحتاج إلى «جسارة» من نوعٍ خاص، جسارة أن تعرف أنّك ستُقتل وتترك من خلفك طفليك وزوجتك دون عائل. جسارة المُخَاطَرة. مُخاطَرَة أن تعرف أنّ خيارك لا يعني بالضرورة إفشال الإنقلاب، وأنّ الإنقلاب قد ينجح وقد يضعك في مزبلة التاريخ، ويضطهد أسرتك. لكنّ الجانب الآخر هو الانحياز لما اعتقدت أنّه صواب، والمراهنة أنّ فعلك قد يغيّر التاريخ حقًا، وقد صدف القّدَر وغيّره فعلًا، وأصبحت بطلًا، تلهج بالدعاء لك ألسنة الملايين من أبناء شعبك!