الحسد وفقًا للثقافة السائدة فكرة أسطورية تجعل من العين أداة لإلحاق الأذى بالآخرين
إذا كان للحسد كل هذا التأثير لماذا لا نحسد إسرائيل لتزول من الوجود؟
الحسد ذكر فى القرآن عدة مرات بشكل مجازى ليعبر عن شرور نفسية وليس قوى خفية
تحفل الثقافة العربية بموروث شعبى ونصوص دينية تحذر من شر الحسود بل وتخلق أساطير حول الحاسد الذى ما إذا نظر إلى نعمة زالت من يد صاحبها، فيتحول الحسد مع مرور الوقت إلى هاجس يدفع الإنسان إلى إخفاء آثار نعم الله وعطاياه بل والكذب أحيانًا وإدعاء غير الحقيقة حتى لا تصيبه عيون الحاسدين ونظراتهم الخارقة، دون أن يلتفت أحد إلى أن الحسد بهذا المفهوم يتناقض مع فكرة القضاء والقدر التى جاء بها القرآن وشرعتها كافة الديانات السماوية، وهو الأمر الذى يطرح عدة أسئلة حول معنى الحسد؟ وهل يتعارض الحسد مع القدر؟ هل الحسد حقيقى أم إنه أحد خرافات العقل العربى؟ هل أخطأ مفسرو القرون الأولى حين ربطوا شر الحسد بوقوع الأذى على المحسود؟ هل هناك تفسيرات أو أقوال أخرى تزيل هذا اللبس بين الحسد والقدر؟
أسئلة كثيرة، نحاول أن نجيب عليها فى هذا الملف الذى يخترق منطقة شائكة فى الوعى العربى تختلط فيها الأسطورة بالنص الدينى بالموروث الثقافى وتنتج مفهومًا مغايرًا للحسد بعيد كل البعد عما أتت به النصوص الدينية.
حقيقة العين والحسد فى الإسلام
فى بحث له بعنوان "حقيقة العين والحسد فى الإسلام" يقدم الباحث الفلسفى سامح عسكر تعريفًا للحسد يختلف عن المفهوم الدارج له، فيقول أن الحسد كما هو موجود فى القرآن هو مُجرد تمنى زوال النعمة عن الآخرين، ولكنه يبقى حَسَداً لا قيمة له إلا إذا انتقل من مرحلة التمنى إلى مرحلة التنفيذ، أى أن يشرع الإنسان فى تحقيق رغباته ومطامعه بيده، سوى ذلك فالحسد هو شعور سلبى ونار تأكل صدور الحاسدين ولكنها فى الحقيقة لا سُلطان لها على الغير بالمُطلق.
يشير عسكر إلى النصوص القرآنية التى تعرضت لقصة الحسد الذى لا يكون شراً إلا حين وقوعه، فحين يقول الله عز وجل (ومن شر حاسدٍ إذا حسد) نفهم مباشرةً أن الحاسد لا سلطان له إلا إذا حَسَد.. وإلا لقال الله عز وجل (ومن شر حسد الحاسد) بمعنى أن رغبة وتمنى زوال النعمة لدى الحاسد هو مجرد شعور بحاجة إلى تطبيق بدلالة (إذا) مضيفًا وفى الحديث الشريف يعتبر صحيح مسلم أن العين من قدر الله، وهذه إهانة للذات العلية وانتقاص من شرط من شروط الإيمان، إذ لو سلمنا بصحة هذا القول المنسوب لرسول الله نكون قد أخضعنا القدر لسُلطة الإنسان.
الاعتقاد بالحسد الشائع يصيب المنظومة الكونية بالخلل
ويعتبر عسكر أن الاعتقاد بصحة مفهوم الحسد الشائع بين الناس يُصيب المنظومة الكونية بخللٍ كبير، لا يستطيع أحد فيه أن يضبط إيقاع الكون، فكلما اجتهدت وصنعت منافع للناس جاء لينقض اجتهادك وعملك من كان فى قلبه حسد، والحُجة موجودة أن هذا حسد ومذكور فى القرآن مضيفًا: والحقيقة أن فهمنا للحسد – الوارد ذكره فى القرآن - هو فهم مغلوط وناجم عن تصورات اجتماعية وثقافية مغلوطة حتى من قبل أن يأتى الإسلام برسالته، ويتساءل لماذا لا نسأل أنفسنا ونُطلق لأذهاننا العَنَان.. نحن نكره إسرائيل ولديها نعمة الأمن والمال، فلماذا لا نحسدها كى تزول هذه النعمة؟ وإذا كنا نكره فناناً أو سياسياً أو عالماً اقتصادياً أو ذرياً فلماذا لا نحسد هؤلاء كى تزول النعمة التى أنعم الله عليهم بها ونكون ممن أقر الله أعينهم بهذا النصر؟
ويستخلص عسكر من بحثه أن الاعتقاد بتأثير العين على الناس هو مجرد وهم كبير أنتجته لدينا أنظمة التخلف والتقليد الفكرية هذه الأنظمة التى أبعدتنا عن الفهم الصحيح للدين وعن رؤية القرآن العالمية للكون وللبشر، فإذا قيل أن مفهوم العين أو الحسد لا يشمل التحكم فى مصائر الناس ولكنه محدود الطاقة فى أعين البعض بمشاعر سلبية قلنا لو سلمنا بأن الحسد هو طاقة سلبية ذات تأثير محدود فما الذى يمنع من عدم محدوديتها؟ ولو سلمنا أيضاً بسلبية هذه الطاقة فما الذى يمنع من إيجابيتها؟..هذا يعنى أن للحسد –حسب هذا المفهوم-سُلطة خير أيضاً كما هو سُلطة شرّ..بمعنى أننى قادر- وبسلطة هذه العين- أن أجعلك وزيراً أو ذا مالٍ عظيم.
ويتابع البحث : فى القرآن حين حَسَد إبليس سيدنا آدم وتمنى زوال نعمة الله من عليه ،لم يكن لإبليس سُلطة على أدم إلا حين قام بتتبعه وإغوائه، فانتقل الحسد هنا من باب التمنى والرغبة إلى باب العمل، وهذا بالضبط هو المقصود من قوله تعالى..(ومن شر حاسدٍ إذا حسد)..ولو كانت للعين سُلطة تأثير -ولو بطاقة محدودة سلبية- لكان حسد إبليس لآدم كافياً لتحقيق رغبات إبليس ومطامعه، كذلك حين حسد ابن آدم أخيه على تقبل قُربان أحدهما دون الآخر، هل كان للحسد مفعول إلا حين انتقل هذا الحسد من باب التمنى إلى باب القتل؟!هذا هو المقصود بأن الحسد لا يكون شراً بالآخر إلا إذا دخل مرحلة التنفيذ، سوى ذلك فهو طاقة مُعطلة تؤذى صاحبها وحسب.
ويفرق البحث بين تفسيرين للحسد عند البشر الأول عند الذين يعتقدون بأن الحسد هو سلطة للعيون على الآخرين، وأن هناك تأثيراً غيبياً لها غير مرئي، فالخياران لديه واحد، لأن العين والشر لديه سابقُ ولاحق مؤثر وأثر، و عقله لا يستوعب الفصل بين العين كمفهوم والشر كمفهوم آخر، أما عند الذين يعتقدون بأن الحسد هو شعور بالضيق والغل والحقد وتمنى زوال النعمة..وفى ذات الوقت هو يؤمن بأن الحسد لا يضر سوى صاحبه ولا تأثير له مُطلقاً على الآخرين فالخياران لديه ليسوا واحد لأنه لا يرى العين تعمل كى تصنع شراًولو فعل فيكون قد أخرج العين من وظيفتها التى خلقها الله من أجلها إلى وظيفة أخرى تُكسبها وظائف الأعضاء الأخرى سواء بالتأثير المادى أو المعنوى أو الذهنى.
القرطبى والمفسرون القدامى لم يمنحوا الحاسد سلطة أذى المحسود
ويرد البحث عمن يرون تلك التفاسير من البدع فيؤكد أن هذه القضية مثارة منذ القِدم ففى تفسير القرطبى قال..(قلت : قال العلماء : الحاسد لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول ، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود ، فيتبع مساوئه ، ويطلب عثراته )..وكذلك الفخر الرازى فى تفسيره قال...( إن أبا على الجُبَّائى أنكر هذا المعنى إنكاراً بليغاً)..وفى كتاب "تخيلات العرب" للحسين بن أبى جعفر بن محمد الرافقى أنكر العين وعدّها من الخُرافات ولكن ليس معنى ذلك أن هذه الرؤية كانت منتشرة بين الناس، ولكن المنتشر حينها كان أن العين حق وأن الحاسد يؤذى بمجرد حسده، وكان الناس يستعيذون من شر الحاسد ومن شر عينه.
أما الباحث العراقى سليم سوزة، يحلل تفسيرات كبار العلماء فى مسألة الحدث ويزيل التراب عما هو شائع فى المجتمعات العربية فينقل عن القرطبى ما كتبه فى تفسيره لآية الحسد "وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ" سورة الفلق، آية 5.
"قوله تعالى: « ومن شر حاسد إذا حسد » قد تقدم فى سورة « النساء » معنى الحسد، وأنه تمنى زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها. والمنافسة هى تمنى مثلها وإن لم تزل. فالحسد شر مذموم. والمنافسة مباحة وهى الغبطة. وقد روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يغبط، والمنافق يحسد) . وفى الصحيحين: ( لا حسد إلا فى اثنتين )
ويستطرد القرطبى فى تفسيره : قلت: قال العلماء: الحاسد لايضر إلا اذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيتبع مساوئه، ويطلب عثراته. قال صلى الله عليه وسلم: (إذا حسدت فلا تبغ..) والحسد أول ذنب عصى الله به فى السماء، وأول ذنب عصى به فى الأرض، فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل. والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون ولقد أحسن من قال: قل للحسود إذا تنفس طعنة يا ظالما وكأنه مظلوم".
ويشرح سوزة تفسير القرطبى ويؤكد أن الحسد لغويًا يعنى تمنّى زوال نعمة غيرنا والقرطبى لم يخرج عن التفسير اللغوى لهذه الكلمة، مثله مثل غيره من مفسّرى الإسلام حيث جميعهم يعرّف الحسد على انه تمنّى لزوال نعمة الآخرين والتمنّى لا يدل بالضرورة على وقوع الفعل. أنا أتمنى أن يعطينى فلانٌ من الناس مبلغاً من المال مثلاً، فهل هذا التمنّى سيُحتّم عليه أن يعطينى المبلغ أم هو مجرّد تمنّى؟ وكذا فى الحسد، أنا مثلاً أحسد فلاناً لأنه يملك سيارةً جميلةً وأنا لا، وقد أكون بالفعل متمنّياً ان تزول عنه هذه النعمة وهو مرض نفسى خبيث بلاشك، لكن السؤال هنا هو، ان حدث وفقد هذا الشخص سيارته او حصل له مكروهٌ ما، فما هى القوة التى ترجمت هذا المرض النفسى الخبيث الى واقع محسوس؟ ويجيب: لا اشكال فى أن الحسد عادة سيئة تتقمّصها نفسٌ مريضةٌ تتمنى زوال نعم الآخرين، لكن الاشكال هو كيف تتم العملية نفسها ويقع أثر الحسد على المحسود؟
ومن القرطبى ينتقل بحث "سوزة إلى الطباطبائى فى تفسير الميزان عن شرح هذه الآية ما نصه أى إذا تلبّس بالحسد وعمل بما فى نفسه من الحسد بترتيب الأثر عليه.
وقيل: الآية تشمل العائن فعين العائن نوع حسد نفسانى يتحقق منه إذا عاين ما يستكثره ويتعجب منه."، ويلفت إلى أن الطباطبائى ومعه الكثير من مفسّرى الشيعة والسنة يميّزون بين الحسد والعين، اذ لا مانع من الحسد مالم يكن مصاحباً بالعين. حتى الآية تقول "اذا حسد" اى لا مشكلة مع الحاسد الذى لا يحسد بل مع الحاسد اذا حسد. وهنا كان الطباطبائى دقيقاً لما قال "اذا تلبّس بالحسد وعمل به" لكنه فى ذات الوقت لا يعطينا كيف يقع هذا الحسد. اما عن العين فيقول عين العائن نوع حسد نفسانى، وهذا يثبت لنا مرة أخرى أن الحسد قضية نفسية لا دليل على تحقّقها فى العالم الخارجى.
وجود الحسد فى القرآن دليل على وجوده فى الثقافة العربية وليس الواقع
المفكر الراحل دكتور نصر حامد أبو زيد، يعتبر الحسد والجن والشياطين من قبيل الشواهد التاريخية للنص الدينى، ويؤكد فى كتابه "نقد الخطاب الدينى" أن وجود كلمة الحسد فى النص الدينى ليس دليلًا على وجودها الفعلى الحقيقى بل هو دليل على وجودها فى الثقافة مفهومًا ذهنيًا وعلى عكس التصنيف الفلسفى التراثى القديم التراتبى لمراتب الوجود: العينى فالذهنى فاللفظى ثم الكتابى يرى علم اللغة الحديث أن المفردات اللغوية لا تشير إلى الموجودات الخارجية ولا تستحضرها ولكنها تشير إلى المفاهيم الذهنية، لذلك قد تشير اللغة إلى مدلولات ليس لها وجود عينى، وفى اللغة العربية دوال لغوية مثل كلمة "العنقاء" ليس لها مدلول عينى واقعى، والذين يستدلون على وجود ظواهر الحسد والسحر بوجود الألفاظ الدالة عليها فى النص الدينى يقعون فى خطأ التسوية بين الدال والمدلول، ويقعون فى التسوية التراثية القديمة بين مستويات الوجود الذهنى والعينى واللغوى.
ويضيف أبو زيد: مما له دلالته أن السورة التى تتحدث عن السحر والحسد حديثًا تفصيليًا سورة مكية وهى سورة الفلق، حيث تتضمن إشارة إلى "النفاثات فى العقد" و إلى شر الحاسد والحسد، وفيما عدا هذه السورة نجد أن كلمة الحسد استخدمت فى القرآن استخدامًا مجازيًا، فقد وردت فى سورة البقرة "( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره إن الله على كل شيء قدير (109) وترد فى سياق مشابه والدلالة المجازية نفسها فى سورة النساء 54 وكذلك سورة الفتح 15، وكل تلك المواضع التى وردت فيها الكلمة فى القرآن، ثلاثة منها بالمعنى المجازى المستخدم اليوم فى لغتنا الحية، وموضع واحد بالدلالة الحرفية المرتبطة بنسق من العقائد والتصورات شبه الأسطورية القديمة.
ويوضح أبو زيد: أن التحويل الدلالى الذى أحدثه النص فى استخدام كلمة "حسد" له مغزاه بلا شك فى الكشف عن اتجاه النص لتغيير بنية الثقافة السائدة ونقلها من مرحلة الأسطورة إلى بوابات العقل، أما تثبيت المعنى الدينى عند مرحلة أراد النص أن يتجاوزها فهو التلوين الإيديولوجى النفعى وهو التأويل المستكره.
AMP