*(لُعبة) "الحرب الإسرائيلية" تقدير عام ... ومُلاحظات بُنيوية*
✍️ الخبير العسكري والأمني أ.عبد الله أمين
الهدهد
على غير عادته ؛ افتتح مدير مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي الجنرال المتقاعد عاموس يدلين مؤتمر المركز السنوي لهذا العام والذي حضره لفيف من المختصين والخبراء واصحاب الرئي من سياسيين وعسكريين من بينهم وزير الخارجية البحريني عبد اللطيف الزياني ووزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية أنور قراقوش ووزير الدفاع الإسرائيلي غابي اشكنازي ، وكان أحد متحدثي المؤتمر رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية الجنرال أفيف كوخافي ، على غير العادة افتتح المؤتمر بلعبة حرب تحاكي وقوع مواجهة عسكرية يتدحرج فيها الموقف وصولاً إلى ضربات صاروخيه متبادلة بين الكيان الإسرائيلي والجمهورية الإسلامية الإيرانية ، متصورة هذه ( اللعبة ) الأدوار المتوقعة لمجمل الأطراف الممكن تدخلها في هذه الأزمة ، بدأ من أمريكا الحليف الأول للكيان ، مروراً بروسيا دون إغفال الدور المتوقع لمجموعة الدول العربية التي تربطها بالكيان علاقات دبلوماسية علنية مثل مصر والأردن والأمارات والبحرين ، وتلك التي تتحدث معه ــ الكيان ــ من تحت الطاولة أو بالواسطة مثل السعودية . تبدأ ( اللعبة ) بقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية وكرد على عملية تفجير تحصل في مصنع للطرد المركزي وانتقاماً لعملية اغتيال الجنرال قاسم سليماني والعالم النووي محسن فخري زادة بعمليات انتقام تبدأ باستهداف مجموعة سائحين أجانب في دبي مروراً بعملية قصف للكيان يصيب مبنى يلحق خسائر بشرية ، الأمر الذي يستتبعه عمليات رد ورد على الرد ، وصلاً إلى تهدئة توقف عمليات القصف المتبادل مكتفية جميع الأطراف بما جباه كل منهم من الآخر من أثمان وما ألحق به من خسائر مادية وبشرية .
أمام هذا السيناريو الــ ( لعبة ) لابد لنا من تسجيل بعض الملاحظات تحت عنوانين رئيسيين نعتقد أنهما مهمين لأصحاب الشأن والمتابعين لشؤون العدو والمنطقة وهما :
أولاً : التقدير العام :
نحن نعيش في عالم متسارع تتبدل فيه المواقف بشكل سريع ويتلقى المتابعون والمهتمون يومياً كم كبير من المعطيات والمعلومات من المصادر المغلقة والمفتوحة بحيث يصعب على المتابع تكوين صورة دقيقة عن المشهد أو الموقف محل البحث ، الأمر الذي يتطلب تطوير مجموعة معايير وأدوات قياس يستطيع من خلالها المتابع قراءة وفرز وتقييم ما يوضع أمامه من معلومات ومعطيات ليبنى على الشيء مقتضاه ، وهنا نضع بين يدي القارئ الكريم ثلاثة معايير وأدوات قياس يستطيع من خلالها تقيم ما يقرأ ، ليحسن تقدير الموقف وتصور المستقبل ، وهي :
1. الجدوى والأكلاف :
لا تشن الدول حروباً لمجرد أنها غير مسرورة من تصرف لاعب سياسي يشاركها الحدود أو ينافسها على المصالح أو يمكن أن يشكل لها تهديد ، وإنما تقدم على اتخاذ قرار الحرب بعد أن تزن الموقف بميزان الجدوى والأكلاف ، فإن كان ما ستجره على نفسها من أكلاف من جراء شن الحرب أو التهديد بها أكبر بكثر من مما يمكن أن تتصوره من جدوى ، فإن تقدمت المغارم على المغانم ؛ فإن الدول لا تقدم على حرب ولا تهدد بها ، وإنما تلجأ إلى وسائل وطرق سياسية ودبلوماسية أخرى لتحصّل ما تريد من مصالح أو تدفع ما يتهددها من مخاطر . وربطاً بهذه القاعدة الحاكمة ؛ فإن جميع الأطراف ــ الرسميين أو الشعبيين ـــ المتصور اشتراكهم في الحرب في منطقتنا ؛ تتقدم عندهم الأكلاف على الجدوى وتفوق المغارم عندهم المغانم ، وإن بنسب متفاوتة من لاعب إلى آخر .
2. الهجوم المضمون والدفاع المأمون :
كما أن الدول لا تقدم على حرب ما لم تكن التقديرات المعلوماتية والعملياتية تقول أن ما سيقدمون عليه من عمل هجومي سوف يضمن لهم تحقيق الأهداف وضمان المصالح ، وأن إجراءاتهم الدفاعية المتخذة لرد هجومهم الذي شنوه على غيرهم ؛ إجراءات مأمونة قادرة على امتصاص الهجوم المعاكس والحد من مخاطره . وأيضاً فإن الجهة التي يمكن أن تبادر بالحرب أو تهوش بيها بين الحين والآخر ونعني بها هنا الكيان الغاصب لفلسطين ؛ لا يملك ضمانة أكيدية من أن هجومه سيحقق ما يريد وأن دفاعه سيحميه مما سيأتيه كرد فعل ممن استهدفهم بالنار ، وعليه ؛ هو لن يبادر بعمل هجومي مدبر معلوم اليوم والساعة .
3. القدرات والرغبات :
كما أن الدول لديها رغبات وطموحات وأماني ، وهذا حقها ولا يستطيع أحد أن يمنعها إياه ، ولكن واقع هذه الدول وما تملكه من قدرات مادية وبشرية قد يعيق تحقيق رغباتها ، فما كل ما يتمنى المرء يدركه ، وهنا لا بد من الإشارة إلى أننا لا نتحدث عما تملكه الدول من قدرات ؛ وإنما نتحدث عما يمكن أن تستطيع تفّعليه عند الحاجة ، فما كل ما تملك من قدرات أنت قادر على العمل به عند الحاجة ، فقد تقيده قيود ذاتية أو موضوعية ليس هنا مكان بسطها .
بعد هذه المقدمة الأصولية التي تساعد في فهم الموقف وتقديره ،و تصور المستقبل ومآلاته ، نأتي الآن على ذكر بعض الملاحظات البنوية على ( لعبة ) الحرب الإسرائيلية .
ثانياً : الملاحظات البنيوية على الــ ( لعبة ) :
1. الحرب ليست لعبة :
أول هذه الملاحظات هو في الشكل وليس في المضمون ، فالحرب ليست لعبة ولا هي نزهه ؛ الحرب هي أعقد نشاط بشري يمكن أن يتصوره الإنسان ، إنها مزيج من تفاعل القدرات مع الإرادات مع الجغرافيات مع الظروف والمناخات ، المنتصر فيها من يملك الإرادة قبل الأداة ، والإستعداد للذهاب في شوطها إلى نهايته ، مع قدرة على تحمل مغارمها طمعاً في مغانمها ، إنها أعقد من تسمى لعبة ، وأخطر من أن ينظر لها على هذا الشكل ، فلو كانت ( لعبة ) للعب من يشاء مع من يشاء متى شاء وكيف شاء ، ولدخل فيها وخرج منها في الوقت الذي يريد ، على أن الأمر ليس كذلك ، فإن كان بادئ الحرب يعرف متى وكيف ستبدأ ؛ فإنه لا يعرف متى وكيف ستنتهي ، لذلك لا نرى أن تسمى الحرب ( لعبة ) ولا تمارينها ألعاب ، فالحكم على الشيء جزء من تصوره ، فإن تُصورت على أنها لعبة ؛ فسيلعب فيها الصغار ، وسيحجم عنها الكبار ، عندها فانتظر الدمار .
2. خلاصة التقدير وال ( لعبة ) :
تخلص الــ ( لعبة ) إلى موقف يتمثل في أن جميع الأطراف المشاركة في الحرب ، لم تكن تنوي تطوير موقفها ، ولا تنوي زيادة أوارها ، لذلك كانت ردات الفعل مضبوطة متحكم بها ، الأمر الذي يثبت ما كنا ذهبنا له في أكثر من مكان من أن لا حرب مدبرة معلومة اليوم والساعة في الأفق القريب أو متوسط المدى ، وإن شئنا ضبطه زمنياً فلا حرب في المنطقة خلال هذا العام ، وستحرص جميع الأطراف على أن تُقرأ رسائلها وتحركاتها بشكل صحيح من الأطراف الأخرى ، فلا يتطور الموقف وتفلت أزمته من أيدى أصحابه فيسقط الجميع من على الحافة التي يلعبون عليها .
3. قرار الحرب مع إيران :
وهنا لا بد من تذكير الجميع أن الملف الإيراني في المنطقة ملف أمريكي بامتياز وقرار الحرب فيه قرار لا يمكن أن يأخذه أي طرف من الأطراف الإقليمية دون الرجوع إلى الأمريكي ، فلا الكيان ولا العربان هم أصحاب قرار أو خيار في هذا المسار ، لذلك مهما علا الصراخ وانتفخت الأوداج من هذه الدول ، فلن تقدم أمريكا على حرب مع إيران ولن تسمح بها ما دامت مغارمها أكبر من مغانمها ، وما دام التقدير أنها لن تكون مضمونة الهجوم مأمونة الدفاع . وهنا لا بأس من استحضار ردود الأفعال التي خرجت من الكيان على خطاب رئيس هيئة الأركان الاسرائيلي كوخافي في خطابه في المؤتمر الذي تعرض فيه لإيران ، وأنه أمر بإعداد الخطط وتحضير متطلبات الحرب ؛ فقد علت الأصوات من كبار الكتاب والجنرالات تندد بما قال ، بدءاً من وزير الدفاع اشكنازي الذي قال أن هذا الأمر يناقش في داخل الغرف المغلقة وليس في مؤتمرات ، وانتهاءً بالجنرال عموس جلعات الرئيس السابق للدائرة الأمنية والعسكرية في وزارة الدفاع الذي قال موبخاً ما مضمونه : كيف تقول ما قلت وأنت ترى أمريكا تقول عكس ما ذهبت له من أنها تريد التفاوض مع إيران وليس الحرب ؟
4. إيران هي التي تبدأ بالحرب :
تفترض الـ ( لعبة ) أن إيران هي التي ستبدأ الحرب وهي التي ستبادر لها كرد على التفجير وانتقاماً للاغتيالات ، الأمر الذي لم يُعهد على إيران فعله في السابق ، فهي لم ترد على فعل أمني بعمل عسكري ، فإن كان التفجير المتصور عمل أمني ، وحيث أن اغتيال فخري زادة كان عملاً أمنياً بامتياز ؛ فسترد إيران بعمل أمني لا تترك خلفها بصمات ، وإن كانت ستضمن وصول الرسالة لمن يجب أن تصل له ، ولن تقدم إيران على حرب مفتوحة في الوقت الذي يعاني اقتصادها ما يعانيه من مشاكل ، وفي الوقت الذي ترى فيه أن مصالحها في المنطقة تتقدم ، وإن ببطئ أو يعوقها أحياناً عوائق ، فإقدامها على حرب عمل جنوني لا يعهد على العقلانية الإيرانية .
5. إيران تتحرك ضمن محور وليست منفردة :
إن أحد معطيات التقدير التي تحضر على طاولة أصحاب القرار المشتبكين مع إيران هو : أن إيران لا تتصرف منفرده وإنما تتحرك ضمن محور يبدأ من طهران وينتهي في لبنان مروراً بسوريا وأفغانستان ولا تستثى منه غزة وفلسطين ، لذلك فإن التعرض لعش الدبابير هذا ليس في مصلحة أحد ، وقد رأت تلك الأطراف كيف أخطأت التقدير عندما تعاملت مع الأزمة السورية انطلاقاً من أن سوريا دولة وحيدة منفردة وليست ضمن محور سيتداعى للدفاع عنها ــ لسنا في وارد تقييم الأزمة السورية الآن وإنما نوصف الموقف فقط ـــ فمنعهم من تحقيق أهدافهم ، فإن كانت سوريا على تلك الشاكلة ، فما بالكم بإيران ، وإن كان الأمر كذلك فمن الذي يملك جرأت فتح حرب معها في هذا الوقت من الزمن الذي تتراجع فيه أدوات الفعل الخشنة لحساب القوة الناعمة والذكية .
6. الأدوار المتصورة : اللافت في سيناريوهات الـــ ( لعبة ) ما جاءت عليه وما أغفلته من أدوار لأطراف متصور تدخلها في هذا الموقف والتي كانت على الشكل الآتي :
1. لم تأتي الــ ( اللعبة ) على دور حركات المقاومة الفلسطينية :
لم تذكرهم ولم تشر لهم لا من قريب ولا من بعيد ، الأمر الذي يشي بأن هذه العدو إما أنه لا يحسب لهم حساب ، وهذا غير متصور لما خبره منهم من جلد على الحرب وصبر على لأوائها ، أو أنه يعتقد أن هذه الحركات لن تهب لمساندة إيران ما لم تطلب هي ذلك ؛ الأمر غير متصور أيضاً ، فإيران لن تطلب من أحد شيء فلديها ما يكفيها من أدوات الفعل وعناصر الضغط ، أو أن العدو يريد أن يقول لحركات المقاومة : أنتم لستم ضمن هذه المعركة فحيدوا أنفسكم لنكف عنكم ونكفيكم شرنا ، وهذا أمر متصور ووارد ، أو أن العدو يرى أنه لا يستطيع أن يفتح حرباً مع الخارج فتمتد نارها للداخل فتعجز أدوات فعله عن المواجهة فيقع المحظور ، وما كان متصورٌ على أنه مغنم فإذا به مغرم ، وهذا أمر ممكن ويتطلب التفكير فيه والبناء عليه من قبل حركات المقاومة الفلسطينية .
2. الموقف الأوربي :
لم يأتي السيناريو المتصور على ذكر الموقف الأوربي بشكل تفصيلي أو دقيق ، كون الكيان يرى أن هناك تباين في وجهات النظر بينه وبينهم فيما يخص الموقف من إيران ، لذلك افترضت الــ ( لعبة ) حياد الموقف الأوربي أو أنه غير فاعل في هذه الأزمة .
3. الموقف الأمركي :
اقتصر على إدانة وتشاور مع روسيا والصين ، ثم تطور ليصل إلى قيام القوات الأمريكية بضربة جوية مكثفة ضد الإرانيين !!! فهل هذا ما سيحصل فعلاً ؟ أم أنه من باب الأمني ؟ هذا لا تجيب عليه الألعاب ، وإنما مواقف حقيقة ومعارك تعبوية ، الأمر المرهون للمستقبل .
4. الدور العربي خصوصاً الخليجي :
ما يسترعي الانتباه كثيراً هو الدور المتواضع الذي تصورته الــ ( لعبة ) للدور العربي خصوصاً الخليجي منه ، فدورهم بسيط جداً يقتصر على المطالبة بعدم وقوع هجوم آخر على أراضيهم والطلب من مجلس الأمن فتح تحقيق في هذا الشأن ، والسلام . وهنا نستطيع أن نقرأ مدى هشاشة هذه الدول وعدم قدرتها على المشاركة في مثل هذه الأزمات بشكل فاعل حقيقي ، وكيف يراهم ( أصدقائهم ) الجدد وبأي عين ينظرون لهم ، بغض النظر عما تراكمه هذه الدول من قدرات قتالية ومعدات حربية ، فإنما هي أدوات تفاخر وتظاهر لا يملك صاحبها قرار تشغيلها أو مهارة تدبيرها ، لذلك تُصور لهم هذا الدور البسيط غير الفاعل أو المؤثر .
الخلاصة والقدير :
وعليه وأمام هذا المشهد وتلك اللعبة ، فما الذي يريد الكيان أن يوصله من رسائل من خلال هذا الموقف المتصور؟
نعتقد أن الكيان إنما أراد أن يوصل التالي من الرسائل من خلال هذا السيناريو :
1. تكريس أن إيران هي العدو : من خلال تصويرها على أنها هي البادئ في الحرب ، وهي من قتلت الرعايا العرب والأجانب مع الاسرائيليون الذين كانوا يتنزهون على ممشى المارينا في دبي ، وهي من استهدف السفارة الأمريكية في بغداد ، فهي العدو المشترك للجميع ، لذلك وجب التصرف بناء على هذا التقدير .
2. بحث عن دور في المفاوضات المقبلة : يبحث الكيان وممالك العربان عن دور في المفاوضات المتوقعة بين أمريكا وإيران فيما يخص الملف النووي ، بحيث يحضرون على طاولة البحث ويضعون ملفاتهم ، كل حسب أولوياته ومصالحه ، فهذا يريد ملف الصواريخ ، وذاك يريد عدم التدخل في شؤونه الدخالية ، وثالث يريد انسحابها من حديقته الخلفية ، ولكل منهم ليلى يغني عليها .
3. حفظ المصالح عند التفاوض : إن لم تتم تلبية رغبات الحضور الفعلي ، فلا أقل من التشاور معنا والوقوف على خاطرنا وحفظ مصالحنا والنطق بلساننا ، فما لا يدرك كله لا يترك جله .
كان هذا الموقف وهذا هو التحليل ، والحرب ليست لعبة ولا نزهة وإنما هي نار ودمار ، لا يقدم عليها إلا من فقد كل خيار ، وبالصبر والجلد والاستعداد لها وقبول مغارمها طمعاً في مغانمها بعد فضل الله ومعونته ،يرجى الانتصار .