*غسان حداد, خواطر في القيادة و الادارة و تنمية الذات*
الاحد : 18-10-2020
*التعاقب القيادي: مؤسسات وجدت لتبقى وتدوم*
*1 من 2*
_*لأن الموت حق, إعداد التعاقب القيادي واجب.*_
في عام 2016 قرر الامبراطور الياباني السابق التنحي عن الحكم لظروف صحية, ولان الامبراطورية اليابانية واحدة من أقدم الامبراطوريات على مر التاريخ, وضعت الحكومة خطة لثلاث سنوات لتسليم السلطة للامبراطور الجديد ناروهيتو الذي استلم الحكم في 2019.
ان سجل الاستمرارية للامبراطورية اليابانية لا مثيل له, و يعود الى التخطيط الفعال في التعاقب القيادي و الانتقال المؤسسي السلسل, حتى اصبح مثال يدرس في قطاع الاعمال في العالم.
ان الاداء هذا انتقل الى الشركات اليابانية الخاصة, ففي اليابان هناك مائة شركة عائلية هي الأقدم في العالم، وأقدمها عمرها أكثر من ألف عام، تنتقل فيها القيادة من جيل الى جيل بسلاسة, *فمعيار الاختيار الكفاءة و ليس القرابة* وفي حال عدم وجود وريث كفؤ تقوم العائلات بتنبي الاكفاء او مصاهرتهم و تزويجهم ليستلموا الشعلة و يحافظوا على الارث.
ولكن قبل ذلك ب 1400 سنة وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يودع الجيش في غزوة مؤتة و يقول: (إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة)، فالقائد العام رسول الله لن يشارك, و المسير عن المدينة بعيد 20 يوما ذهابا ومثلها ايابا و العدو دولة عظمى, لذلك لا بد من تعاقب قيادي محدد, واضح.
استشهد زيد و جعفر و عبدالله فتقدم رجل من الانصار ثابت بن أقرم ـ فأخذ الراية وسلمها لخالد بن الوليد وقال ما اخذتها الا لك, فاصطلح الناس على خالد،
*لقد كان استشهاد زيد ثم جعفر ثم عبد الله ايذانا بميلاد قيادة خالد وهذا ما يعرف بالتعاقب القيادي الذي يفرضه الميدان. فلولا استشهاد القادة الثلاث لما ظهرت عبقرية خالد في بداية اسلامه التي لم يكن قد مضى عليها اكثر من ثلاثة شهور فقط.*
التعاقب القيادي الذي يفرضه الميدان هو اداة فعالة لترفيع القيادات، هذا ما اكدته الدراسات الاسرائيلية التي ذكرت ان سياسة جز العشب الذي ينتهجه الجيش الاسرائيلي قد ادى الى ظهور قيادات ميدانية شابة مما زاد من فعالية و دينامكية حركات المقاومة الفلسطينية
أثناء علاج مبارك فــى المـانـيا , كان فى غرفه مجاورة مريض المانى, تسائل المريض كم سنه حكم هذا الرجل فقالوا له 25 عاما فجاء رده: هذا الرجل فاسد مفسد ديكتاتور وفاشل.
سألوه لماذا ؟ أجابهم : *أن من يحكم بلدا كل هذه السنيين ولا يستطيع إنشاء مستشفى يُعالج فيها فهو مفسد ديكتاتور و فاشل.*
هذا المنطق هو ما ينطبق تماما على من يقود مؤسسة لفترة من الزمن ثم لا يوجِد البدائل المناسبة له و لقيادته, *فقول الاتباع ان القائد الفلاني لا بديل له هو دليل ادانة وفشل قيادي لا دليل نجاح و نبوغ قيادي. فالقائد الحقيقي هو من يصنع مزيد من القادة يتفوقون عليه في المعرفة و القدرة لا مزيد من الاتباع*
_*التعاقب القيادي او الاحلال القيادي هو توفير البديل القيادي المناسب في الوقت المناسب في المكان المناسب*_ وهذا يتطلب تخطيط فعال و توريث قيادي للتجربة بأمانة و صدق و شفافية.
وهذا أمر على رغم اهميته لأنه بمثابة تجديد لشباب المؤسسة وضخ متجدد للدماء في إدارة المنظمات، الا ان كثير من المؤسسات تفشل في تحقيقه, فقد أشار تقرير "ماكينزي آند كومباني" إلى أن أقل من50% من المؤسسات تطبق سياسة واضحة للتعاقب القياداي، وأن32% منها فقط لديها سياسة واضحة في شأن الأدوار والمسئوليات القيادية.
*و يجدر التنبيه إلى أنَّ التوريث و الاحلال القيادي لا يعني "القولبة"، ولا يعني "الجمود".*
فالقولبة تعني تقليدنا الحرفي للقادة السابقين، دون مراعاةٍ لاختلاف الملَكات والبيئات والظروف والتحدِّيات. والجمود يعني إغلاق العقول عن التفكير والإبداع.
إن أكبر تحدي يواجه المؤسسات في اعداد الخطط للتعاقب القيادي هم القادة الحاليين أنفسهم, فبعض القادة شغله الشاغل يكون في محاربة الكفاءات بطرق مباشرة او غير مباشرة, لانه يعتبرها تهديد لموقعه و مكتسباته.
وهذا مؤشر لخلل تربوي و عززه ما يراه القائد من تصرف الافراد مع القادة السابقين, حيث يميلون الى اهمالهم و نسيانهم وعدم الاقتراب منهم او الاتصال بهم بعد أن كانوا يفرشون لهم السجاد الاحمر.
و التحدي الكبير الثاني هو منهجية التقييم الخاطئة التي تعتمدها القاعدة بحيث تنظر للقائد اما من باب التقديس او من باب التبخيس.
فبين التقديس و التبخيس تضيع قواعد المنهجية العلمية للتعامل مع موضوع التعاقب القيادي بين من يؤمن انه لا يوجد بديل للقائد طالما هو على قيد الحياة فهو فريد وحيد اشبه بالملائكة, فوق كل نقد, شبه منزه عن الخطأ محاط بنوع من العصمة و هذا أمر يتناقض والفطرة الإنسانية والسنن الكونية والمبادئ الشرعية والتربوية و العلمية. وهذا النوع يميل الى المحافظة على الوضع الحالي ورفض اي تعديل او تطوير فيه و شعاره الدائم *من لنا من بعدك*
و بين من يعتقد أن ليس للقائد ما يستحق ان يورث للاجيال القادمة, بحيث يغمض عينيه عن كل فضل وسبق لهذا القائد، ويدفن كل حسنة له، ويصوره شيطانا ، أو بهلولا ساذجا لا يحسن التعامل مع الأحداث والظروف، فيسعى الى هدم و تحطيم القائد و ارثه الثقافي و الحضاري, وهذا يعني دوام الإفلاس وعدم التقدُّم و عدم تراكم الخبرات و عدم الاستفادة من التجارب والأخطاء الماضية ، كما يعني دوام البدء من نقطة الصفر، ممَّا يؤدِّي إلى إضاعة الوقت والجهد من غير طائل.
إن غياب سياسات التعاقب و التوريث القيادي بمعناه الايجابي في المؤسسات الحكومية أمر مفهوم فهو ينطلق من نفس منطق تقديس الرئيس او الملك, ولكن غياب هذه السياسات عن الشركات و المنظمات الغير حكومية أمر مثير للدهشة و الاستغراب و أصبح يشكل مشكلة حقيقية للشركات, المؤسسات و الاحزاب.
فمع كل استحقاق للتعاقب القيادي تظهر على سطح تلك المؤسسات صراعات قد تصل الى استقالات او انشقاقات تؤدي الى تقسيم و فشل المؤسسة, أو تترك افرادها مثخنين بالجراح التي يصعب علاجها.
هذه الصراعات هي نتيجة لغياب سياسات التعاقب القيادي الواضحة و الشفافة التي تسمح للجيل القيادي الاول التشبث بمواقعه متذرعا بشرعيته التاريخية و التأسيسية و عدم ثقته بالاجيال القادمة على مواجهة التحديات و التغلب على العقبات و تدفع في المقابل الجيل الشاب او الصاعد الى التدافع الخشن و القاسي مع القيادات التأسيسية لايمانها ان هذه القيادات لن تتخلى عن مواقعها طواعية و ان تخلت فيكون ذلك بشكل مؤقت وستسعى دائما للعودة ما دامت حية ترزق.
سيبقى مخاض الولادة القيادية عسيرا و قيصريا في عالمنا العربي سواء في القطاع الحكومي او المؤسسات الخاصة و المؤسسات الغير حكومية الى ان نبلغ سن الرشد القيادي الذي يمكنا من التغلب على تحديات و عقبات التعاقب القيادي عبر سلسلة من السياسات و الاجراءات للتعاقب القيادي واضحة و شفافة وعادلة, وهذا ما سنتحدث عنه في مقال الاسبوع القادم ان شاء الله .
*غسان حداد*